الشاعر العراقي نامق سلطان: ليس للشعر مسقط رأس

حاوره: مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

ما يكتبه نامق سلطان من نصوص شعرية منذ ثلاثة عقود يضعنا أمام أهمية التجربة الشعرية، بما تحمله من لغة تمنح الأشياء المألوفة تسميات جديدة، وربما شعره يدفعنا إلى أن نعيد طرح سؤال جوهري: ما الشعر؟ دواعي هذا السؤال تفرضها طبيعة العلاقة المجازية التي يقيمها بين الكلمة وتفاصيل صغيرة يلتقطها بمجسه الشعري، من ظلال حياتنا اليومية، على النحو الذي يعيد لنا دهشتنا الطفولية الأولى أمام الحياة، فنصوصه تمنح القارئ نشوة اكتشاف الشعر بجماله الخاص في الأمكنة العابرة، وفي المهمل من قاموس شعرنا العربي المتداول، فاللغة بالنسبة له تجاوز لِما هو مباشر إلى ما هو أبعد من صورالواقع ومعطياته المحدودة، بدلالاتها ومعانيها المتداولة.. أصدر سلطان عام 1995 مجموعته الشعرية الأولى «أقحوانة الكاهن» وكانت ضمن سلسلة كتب تولى إصدارها اتحاد أدباء العراق في مدينة الموصل، وفي عام 2016 صدرت مجموعته الشعرية الثانية «ترقيع الأمل»عن دار مومنت في لندن. وبمناسبة صدور مجموعته الثالثة منتصف عام 2019 أجرينا معه هذا الحوار.

■ ما الذي يحدد أهمية التجربة الشعرية، هل هي اللغة؟ أم العلاقة مع الأشياء؟
□ أهمية التجربة الشعريه تكمن في الشكل الذي يستوعب اللغة والعلاقة مع الأشياء، لنحصل على بنية منسجمة لا يمكن تعريفها أو التعرف عليها قبل ولادتها. اللغة وخلق علاقات جديدة مع الأشياء، وبين الأشياء ذاتها، هي من أساليب إخراج النص في شكله الذي قد يختلف من شاعر إلى آخر. أما تلك الروح التي تبث في النص فلا تأتي إلا من تجربة صادقة في الحياة وفي الكتابة، فهي التي تميز النصوص الشعرية الحقيقية عن تلك التي تستخدم اللغة، كما تستخدم قطع الميكانو، أو تلك التي تهذي عن أشياء مبعثرة لا رابط بينها. وبقدر الغموض الذي يقف وراء هذه الإجابة، يقف غموض ماهية الشعر والفن عموما، حيث لا يمكن وضع حدود نهائية لمعنى التجربة الشعرية وطريقة تحولاتها من حالاتها الذهنية والوجدانية إلى مظهرها المادي، الذي يمثل أمامك على الورقة. في الشعر هناك دائما علاقة ملتبسة بين الكلمة ومعناها المباشر، وبين الصورة وانعكاسها في المخيلة، وبين الحدث والذاكرة… القدرة على اكتشاف هذا الالتباس ربما هي العنصر الذي يمنح النص الشعري طاقة روحية تجعله متجددا وعصيا على الاستهلاك. أما الشكل فهو المشكلة الكبرى التي يجد الشاعر نفسه أمامها، وعليه أن يحلها بنفسه، وإلا سيجد نفسه صدى لأصوات سابقة، وربما ميتة.
■ أي الاتجاهات تجد ان اللغة الشعرية العربية الحديثة تسير بها؟
□ بعد قرن كامل من تجارب التحديث في كل مناحي الأدب والفن في عالمنا العربي، تراكم من المنجزات ما يكفي كي تمضي اللغة الشعرية في طريقها بدون أن تجد العوائق التي عاناها الشعراء الذين فتحوا لنا طريق التحديث. إن الدور التاريخي للفاتحين الأوائل يكمن في ذلك التراث الذي خلفوه لنا، حتى إن لم يعد في أكثره ذا قيمة فنية. ما نراه الآن، هو أن اللغة الشعرية تجنح إلى البساطة وتقترب من اللغة اليومية، وتمضي في التخلص من القيود التي وضعت حولها كتصنيف المفردات إلى شعرية وغير شعرية، أو إثقالها بشحنات تاريخية أو أسطورية أو رمزية، وغير ذلك مما تيسر من كشوفات أو نُقولات للتجارب الشعرية السابقة، مع ملاحظة أن بعض التجارب التحديثية، جاءت بنتائج عكسية أثقلت علينا القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو سطحي واستعراضي. إن الحرية هي ما يصبغ اللغة الشعرية الحديثة، لذلك فإن خيار قصيدة النثر هو الخيار الطبيعي، وهو في تقديري، تتويج لائق لمسيرة الشعر العربي الحديث. مع قصيدة النثر يكون الشاعر في مواجهة حقيقية لاختبار مهارته وصدق تجربته. وقد ساهمت سهولة النشر وسرعة توصيل المكتوب من خلال وسائل التواصل الإلكترونية إلى تنمية الجرأة في اقتحام أماكن كان من الصعب الدخول إليها سابقا. وهذا فتح روافد جديدة في تغذية المنجز الشعري وآفاقا كثيرة أمام اللغة الشعرية.
■ الشعر إضافة إلى كونه مشروعا إبداعيا بالدرجة الأولى، فهو مشروع ثقافي، أنت شخصيا إلى ماذا تسعى في مشروعك الشعري؟
□ الشعر مثل أي ممارسة ثقافية أخرى، يساهم في خلق الوجدان العام للمجتمع من خلال تفاعله مع أكثر المناطق حساسية في الوجدان البشري للفرد، الذائقة والخيال، وربما هذا هو الرابط الأساسي بين الشعر والثقافة بمعناهما الاجتماعي والسياسي، وربما أيضا هذا ما يمنح الشعر قدرة تحريضية من أجل التغيير. أما خارج هذا الأطار فلا أسعى إلى أكثر من تلبية دوافع ذاتية بدأت معي منذ بداية الوعي المبكر بمشاكل الوجود الإنساني والقلق والبحث عن الجمال وقراءة تجارب الآخرين.

اهتمامي بالتفاصـــــيل ينسجم مع نزوعي إلى السرد الشعري، الذي من خلالة أطمح بفتح روافد لتدفق الأحداث إلى المجرى الأوسع الذي يجري به النص الشعري.

■ هل استوعب النقد تجربتك الشعرية؟
□ حتى أنه لم يحاول التقرب منها. عموما فإن نقادنا قليلون، والطرق التي تؤدي إليهم لا تمر بقربي. فأنا عشت عالمي الخاص الثري بقليل من الأصدقاء والكثير من المعرفة والتأمل. لم أبحث عن ناشرين ولا عن صحف ولا حتى عن قرّاء. الغريب أن أكثر من ينسبون إلى النقد ما زالوا واقفين عند الأسماء التقليدية التي رسخها الإعلام والسياسة، وكأنهم لا يجرؤون على تجاوزها، وهذا طبعا نابع من فقر الساحة النقدية إلى مرتكزات نظرية أصيلة تمكن الناقد من اكتشاف وتحليل ما هو جديد في مجالات الإبداع. وفي ما يخصني، لولا متابعات الناقد محمد صابر عبيد وبعض الإشارات هنا وهناك لقلت لك إن النقاد حتى لم يسمعوا باسمي.
■ النص الشعري الذي يلملم ما هو يومي وعابر وعادي في تفاصيل الحياة يكاد أن يكون واضحا بما تكتبه، هل تجد في هذا الشكل خاصية الإمساك بما يبدو ليس شعريا في نظر الآخرين؟
□ نعم، إنه يبدو ليس شعريا، لماذا؟ لأننا ورثنا ركاما من الأفكار المسبقة عن أن هناك أماكن وأشياء وأحداث ليست شعرية. الشعر مرتبط عندنا بالعاطفة/ الشعور- الشعر/ وهذا من الموروث المتعارف عليه. لم نعد نتعامل مع الشعر من هذه القواعد التي أسسها الفهم العام البسيط قافزا حتى على مفاهيم نقدية تراثية متقدمة أعطت للشعر مفهوما أرقى. أنا أبحث عما يبث الحياة في النص الشعري. لذلك ألجأ إلى التفاصيل من قناعة بأن الحياة تشيع في التفاصيل اليومية الصغيرة، وهي تعنيني أكثر من المجردات والأحداث الكبيرة. الأحداث الكبيرة تؤسس للموت والدمار وانقراض الحياة على الأرض. كما أن الأفكار هي أقل التصاقا بالحياة، وغالبا ما تعمل ضدها.
وهذا يعيدني إلى سؤال سابق تطرقت فيه إلى الروح. التفاصيل الصغيرة تمثل عندي مصدرا مهما لبث الروح في النص الشعري. كما أن اهتمامي بالتفاصـــــيل ينسجم مع نزوعي إلى السرد الشعري، الذي من خلالة أطمح بفتح روافد لتدفق الأحداث إلى المجرى الأوسع الذي يجري به النص الشعري.
■ هل تسعى إلى أن يكون نصك مفهوما، بمعنى، هل تنطلق مما هو مشترك مع المتلقي؟ أم أنك تراهن على سلطة المعنى الشعري بمعزل عن المتلقي؟
□ في الحقيقة أنا لا أفكر بالمتلقي الآخر إطلاقا. المتلقي الذي يعنيني هو أنا. ولا بد أن يكون هناك من يشبهني في ذائقتي.
أولئك الذين سوف يصلهم نصي كما يصلني. والنص لا بد أن يكون مفهوما بشكل من الأشكال من خلال المشتركات الحياتية، التي لا بد أن تكون موجودة في حياة الشاعر والمتلقي حتى إن اختلفت الأفكار.
وهنا أريد أن أشير إلى كلمة «مفهوم» التي قد تلتبس مع «المعنى» الذي إذا ما تقدم في قراءة النص فسوف يفسد ما نريده من الشعر. التعامل مع الشعر هو تفاعل مع النص يفسد باختزاله إلى مقاصد وأفكار.
■ هل من علاقة يمكن أن تجمع النص الشعري الحديث مع الحدث؟
□ طبعاً. ليس هناك ما يمنع الشعر من الوصول إلى إي مكان من وجودنا. الشكل هو الذي يزيح الأشياء والأحداث إلى منطقة الشعر. لكن المشكلة مع الأحداث الكبيرة ذات المرتكزات الأيديولوجية، لأن التعامل معها ينطوي على خطورة أن يحمل النص موقفا لا ينسجم مع القيم النبيلة التي ينبغي أن يرسخها المنجز الأدبي والفني. وتجاوز هذه الأماكن الخطرة تفرض على المبدع مستوى عاليا من الوعي والشعور بالمسؤولية ومهارة في البناء.
■ يبدو لي أن الشعر الأجنبي يشكل رافدا اساسيا في تكوين الشكل الشعري الذي تقتفيه، فهل هذا يعني أنك في حالة قطيعة مع التراث الشعري العربي؟
□ هذا صحيح نسبياً، من ناحية الشكل، وهذا مهم. لكن مفهوم القطيعة مفهوم قاس لا أريد أن أقر به بالمطلق، فهناك أمور مهمة أخرى في الشعر غير الشكل، وهي ما يشكل المنظومة الذهنية للشاعر. وهذه ترتبط بحوار متواصل مع التراث الذي يمثل جزءا من حياتنا، وجزءا من صراعنا مع هذه الحياة. في المراحل الأولى من قراءاتي، كان التراث الأدبي العربي الوجداني، وأخص الرثاء والغزل، هو المجال الأكثر قربا من نفسي. ثم جاءت قراءة آداب المتصوفة وسواهم. وبسبب من نزوعي الفطري إلى الحرية، فأنا أضيق بكل ما يمثل قيدا في الفكر أو في الأدب، لذلك عندما قرأت الشعر المترجم شعرت بأنه الأكثر انسجاما معي. بعدها لم أعد أهتم كثيرا بما يكتبه الشعراء العرب، الذي كان يتراوح بين العادي والمقلد والمثقل بالشكلية والتنظير. أما ما يلبي حاجتي من شعرهم فهو قليل، كما أن إنتاج بعضهم كان يصعب الوصول إليه لأسباب خارج إرادة القارئ. ببساطة أقول، إن الشعر ليس له مسقط رأس. فليس هناك من سبب فني أو وجداني يجعل القارئ يميل إلى قراءة نص لأن كاتبه عربي ويعرض عن آخر لأن كاتبه فرنسي أو أمريكي. الشعر إنساني في جوهره.
■ متى يمكن أن تتخذ قرار التوقف عن كتابة الشعر؟
□ عندما أجد أنني لم أعد قادرا على كتابة النص الذي يمثلني أنا وحدي، سأكتفي بالقراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية