قبل زمن قصير، طرح في امتحان اللغة العربية الكتابي لمدرسة مهندسين باريسية راقية موضوع عزوف الشباب عن الانخراط في الأحزاب السياسية، المغرب نموذجاً. أعجبتني الفكرة وحفزتني على المقارنة مع الواقع الفرنسي.
التجديد.. هذه هي الإشكالية في نهاية المطاف.. تجديد ليس مجرد الطبقة السياسية لأن في النهاية أيضا، عبارة الطبقة السياسية، بالنسبة للجماهير مجردة للغاية.
يتم التجديد أولا بالرموز، طبعا الرموز لا تكفي، لكن أن تجد رئيس الوزراء الفرنسي الجديد يخاطب المزارعين، وهو يلقي لائحة الإصلاحات الجديدة على كومة قش، مثيرا، مثيرا للإعجاب، مثيرا للفضول، مثيرا للسخرية ربما للبعض، لكن في كل الأحوال هو مثير.
لقد دخلنا زمن الاتصالات والتواصل منذ زمان، لكن نسينا أن الاتصالات والتواصل ليسا مجرد رقمين، كلا! التواصل كلمات وشعارات، لكن حذار.. لا نبخس ثمن الكلمات، معتبرين إياها فرقعات لفظية لا أكثر. صحيح أن «نصف البلاغة بلاء» كما دأب على القول أحد أساتذتي السابقين، لكن السياسة تواصل والتواصل بلاغة.
غابرييل أتال شاب، لكن السياسة بحاجة إلى تجديد، ويجب أن يأتي ذلك اليوم الذي فيه سيتم تفعيل، في حق السياسة أيضاً، مقولة «السياسة قديمة ـ جديدة». أجل السياسة قديمة قدم الإغريق، قدم مدنية أرسطو، التي كرست شخصية المواطن، قبل أن يكرس أرسطو بدوره المدنية، والسياسة قديمة قدم إنجاز الخطيب الاستراتيجي بريكليس، مؤسس «الديمقراطية الجذرية» بإشراكه المواطن في صناعة القانون، ما مهد للحياة البرلمانية. هل سيكون غابرييل أتال ممن سيؤرخ لهذا الجمع بين إرث سياسي ضارب الجذور في عراقة ممارسته، وتجديد متواصل يترسخ أكثر فأكثر في مسار الحداثة؟ إن الحداثة في السياسة رهان، لكنه رهان لا مفر منه. كان اتال في صدارة الذين أكدوا أهمية التواصل الرقمي في الحشد والاستقطاب، عندما كان منخرطا في دائرة منشطي حزب «إلى الأمام» سابقا، «النهضة» اليوم. أكيد أن الحداثة تفعل فعلها في عملية الحشد والاستقطاب، والحداثة الرقمية منها، لكن من يعتقد أن حركة «إلى الأمام» سابقا حزب ‘النهضة» اليوم تنظيم سياسي «شاب» (وهذا ينطبق على تنظيمات سياسية كثيرة عبر العالم)، عليه أن يراجع مسألةً، وهي أن الحزب من تأسيس شباب، لكن من يدعمه أساسا شيوخ. هل سيكون أتال من يحقق هذه المعادلة الصعبة الكامنة في الجمع بين الأصالة والمعاصرة السياسيتين: الأصالة القائمة على الاستجابة لمطالب تقليدية، مثل المحافظة على المبادئ العلمانية في المدرسة العمومية، والارتقاء بمستوى الطلاب، مثل تقديم ضمانات للمزارعين بعدم تضررهم من معركة الأسعار التنافسية التي تخوضها المحلات التجارية الكبرى. هذه هي «عجينة» السياسة، مهما سيتغير الديكور، ومهما ستتغير الصورة، ستظل كما هي، لكن ما ليس قارا هو مدى كفاءة القيادي في التناغم مع ما كان يسميه غوستاف لوبون «سيكولوجية الشعوب». في حالة أزمة المزارعين التي استطاع أتال تفكيكها في الساعات الأخيرة، كان المزارعون قد تمكنوا من كسب الشعب إلى جانبهم مبكرا، وبطريقة أوسع من أصحاب «السترات الصفراء»، الذين غلبت العفوية على حركتهم عندما ظهروا دون قيادات واضحة وتضاربت مطالبهم.
رهان الشباب في السياسة «تشبيب» للسياسة، وهو رهان أوسع مدى من مجرد الالتزام الحزبي، فبدخولنا زمن التواصل العولمي لم يعد هناك مناص من استبدال مفهوم «الطيف السياسي» بـ»طيف الالتزام»
لكن كسب الشعوب من عدمه لا يمثل سوى جزء من المعادلة. والوجه الآخر من العملة، الذي تدخل مسألة «كسب الشعوب» ضمن رهاناته، صوت وصورة فعلا،
أن تختار صيغة المقابلة الصحافية، فالمؤتمر الصحافي، أو الخطاب إلى الشعب له دلالة، أن تختار مخاطبة فئة اجتماعية على خلفية مشهدية شبه مسرحية، كأن تضع أوراقك على كومة قش لمخاطبة المزارعين له دلالة أيضا، هنا تتحدد ممارسة سياسية حديثة تجمع بين الاستجابات التقليدية القائمة أساسا على مسك العصا من المنتصف، حفاظا على السلم الاجتماعي بين مختلف الفئات، و»تلميع» صورة السياسي إلى درجة جعل الرأي العام ينسى كونك تخوض في السياسة بمعناها التقليدي. من هذه الناحية، لم تعد تطرح إشكالية انخراط الشباب في الأحزاب بالطريقة ذاتها التي كانت تطرح فيها من قبل، لأن السياسة بمفهومها الحديث تدفعنا إلى إعادة النظر في مسألة الالتزام، وفق ما أفرزته مختلف أشكال الالتزام في المجال الجمعوي، الذي يعيد بدوره تحديد مفهوم السياسية بمعناه الإغريقي الأرسطوطاليسي الأصلي: حضور المواطن في المدينة وسعيه لإيجاد الروافع اللازمة من أجل إحداث التغيير.
رهان الشباب في السياسة «تشبيب» للسياسة، وهو رهان أوسع مدى من مجرد الالتزام الحزبي، فبدخولنا زمن التواصل العولمي لم يعد هناك مناص، ليس فقط من توسيع مجالات الالتزام، بل من استبدال مفهوم «الطيف السياسي» بـ»طيف الالتزام». من هذه الناحية، يمكن اعتبار التيارات البيئية، أكانت جمعوية أم حزبية، بواكير لالتزام المواطن في الحياة العامة. أتذكر أول تصويت لي في الانتخابات وقد كان لمترشح البيئة، غمرني حينها شعور بالفخر، ومأتى الفخر كان لافتا في كوني لم أراني اصوت لأجل مترشح بالمعنى الحزبوي المؤدلج، الذي كنت أراه ضيقا، وإنما لصالح من كان يمثل في تقديري.. المصلحة العامة. الصالح العام والمواطن، شعار أبدي يخترق العصور، وبات يؤرق مضجع الكثيرين وبال «كثيرين» هنا أعني المنتسبين إلى المجتمع المدني. فقد ظل هؤلاء يعانون من ذلك الإشكال الجوهري، الذي يجعل منهم أفرادا يرغبون في التغيير، ولا يجدون في الوقت ذاته مكانا في الهياكل التي تدعي في قيادة التغيير فلسفة. أكيد أنه غابت عن هذه القيادات أشياء، فهل يملك شبابنا اليوم القدرة على الإمساك بدفة الأمور على صورة تذكر بالمعنى الأصلي كلمة «جمهورية» وهي «أمور الجمهور؟».
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي