لم يكترث أي من الكتاب أو المثقفين العرب لمحاولة التعرف على تفاصيل الربيع الذي حدث في الجزائر منذ أزيد من عشرين سنة. على اعتبار أنه طرح، تبنته السلطة في الجزائر لمنع انتقال شرارة الربيع العربي. والحقيقة هي أن الربيع في الجزائر حدث بالفعل. وحتى الآن لا يزال الخلاف قائما، حول أسبابه الحقيقية. أي إن كان مؤامرة خارجية أو غضبا شعبيا متراكما أو صراع أجنحة داخل السلطة آنذاك. ولكن و مما لاشك فيه أن جرعة كبيرة من الحرية نتجت عن تلك الأحداث لا يمكن إنكارها. والحقيقة وبصراحة- هي أننا كنا كجزائريين نشعر بانتشاء كبير في تلك الفترة. حين كنا ننظر إلى الانسداد السياسي والقمع الموجود في جل الدول العربية. فالربيع السياسي في الجزائر حقق الكثير، ولكن لم يصاحبه ربيع فكري مناسب يضمن نضج الثمار ويؤمن المكاسب. إن محاولة تحليل الوضع الحالي في دول الربيع العربي من منظور سياسي، لا يفيد كثيرا. مثلما لم يكن مفيدا في الجزائر، ولا يزال. لأن السياسة تبحث عن المهزوم والمنــــتصر وهذه الثــــنائية، في الدول المتخلفة، لا تكترث لكمية الدماء أو حجم الدمار. في حين قد يؤدي السؤال عن الربيع الفكري إلى رؤية أوضح للمستقبل. فالمشهد المصري مثلا، لا يزال يحاكي المشهد الجزائري من خلال الخطوط العامة للتفاعلات السياسية، مع التنبيه إلى أن المعطيات في الجزائر كانت أكثر تعقـــيدا، فالأطراف المتصارعة في مصر تبحث عن التأييد في الداخل والخارج، وكل طرف معتقد تماما أنه على حق. ولو سألت مثلا: هل هذا الاصطفاف مفيد للــــدولة المصرية – التي هي فوق الجميع أي فــــوق السلطة والمعارضة والجيش- سوف تكــــون الإجـــابة بسيطة وبـ’نعم’ لا غبار عليها.. لكن النــــظر إلى ما يحدث من خلال الثقافة المصرية يعطــــينا نتـــائج مخــــتلفة تماما. لكن يجب الإشارة أولا، إلى أننا نتحدث عن المفهوم الحقيقي للثقافة. وليس عن مجموع الفنون التي احتكر أصحابها الحديث باسم الثقافة. واللافت للانتباه في مصر، مقارنة بباقي الدول العربية، هو الحضور الكثيف للمطربين والفنانين والممثلين في الساحة السياسية. وهذا من حقهم بالطبع كمواطنين بالأساس. لكن هذا يؤثر على قدرة المختصين في الفلسفة أو علم الاجتماع وإمكانيتهم على تأطير التفاعل السياسي والاجتماعي والفكري بصفة عامة. ليس من أجل إيجاد حلول أكيدة ولكن لتفادي بعض المطبات البشعة، على الأقل. بمعنى أنه من المستحيل أن يقول شخص بخلفية أكاديمية بوجود شعبين داخل الشعب المصري أو الجزائري أو التونسي. إلا إذا كانت خلفيته العلمية ضحلة بما يكفي. لكن من لا يملك خلفية علمية ووعيا وهو يتسلق خيوط الدخان بإمكانه أن يأتي بالعجب العجاب. وأصبح الإسلاميون شعبا داخل الشعب المصري. وهذا يذكرنا بحجم الكراهية التي حدثت بين الأطراف المتصارعة في الجزائر، والتي أسست لنفسها عن طريق نبذ المخالف إيديولوجيا قبل القضاء عليه. أي أنه وباسم الثقافة يسمح البعض لأنفسهم تبرير أي خطاب. إن محاولة الحكم على الإطاحة برئيس منتخب واعتـــــبارها تصحيحا ثوريا أو انقلابا لن تفيد. لأن كل طرف سيظل متمسكا برأيه إلى درجة غض النظر عن أي تجاوزات قد تحدث، مهما كان حجمها، لكن الشيء الأكيد الذي يمكن المراهنة عليه، هو أن الذي حدث أعلن بـــداية شتاء طويل، وهو ليس شتاء سياسيا، لأن الساحة ستظل ساخنة، وستكون المادة الإعلامية متوفرة بغزارة، بل هو شتاء ثقافي بمؤشرات واضحة. بإمكان، من يشاء، القول بأن الإسلاميين أصبحوا أقلية وأن الشعب لفظهم، وأن المرحلة الانتقالية ستؤتي أكلها، لكن التجارب أثبتت أن هذه الصيغ مجرد تمنيات. فالشتاء ضرب المشهد الثقافي في الجزائر بعد ربيع سياسي تحول إلى كارثة، وحتى بعد، عودة الاستقرار مع المصالحة الوطنية، التي قضت على العنف السياسي ونزعت عنه الغطاء نهائيا، بقيت آليات التفكير تراوح مكانها، وبقي الاسلاميون والعلمانيون واليسار والليبراليون وكل الخلطات الأخرى. إن العقل العربي غارق في رمال السياسة المتحركة، معتقدا ان بإمكانه التحكم فيها وبناء أسس سليمة تؤدي في النهاية إلى خدمة الدولة والشعب. فحركة الاخوانالمسلمين ارادت اعتماد الديمقراطية وكأنها في إنكلترا أو أي بلد آخر مشابه، ورفضت الاقتباس من بلدان مشابهة لمصر في النسق السياسي والاجتماعي.. ولو قلنا ان جبهة الإنقاذ المشاركة في السلطة اليوم تقوم بنفس السلوك الذي قام به الاخوان، سيكون رد الفعل، الرفض القاطع لهذا الطرح، فالسياسية تمارس وكأنها جولة أو جولات من الشطرنج، في حين أن المصيبة الأساسية هي في ثقافة الشعب وهذا الشيء غير قابل للتجزئة الاعتباطية. لأن الإخواني أو اليساري أو البلطجي لم يأت من الفضاء، بل هو ابن الثقافة المصرية. وقس على بقية الدول العربية. إن قوانـــين علم الاجتماع تفرض نفسها بنفسها وتمكننا أحيانا من رؤية الأفق بوضوح. وطالما أن السياسيين الحقيقيين وليس الانتهازيين- لم يراجعوا أفكارهم واستراتيجياتهم، فستؤدي كل التكتيكات الحالية إلى الحفرة التي يحجبها ضباب الشتاء.. وهذا ما لا نتمناه.