ترك هجوم الرعاع الداعمين لترامب على الكونغرس الأمريكي أثرا قويًا على السياسة الأمريكية، ووضع الكثيرون في النخب الأمريكية علامات استفهام جدية حول إرث ترامب عموما، وليس فقط على سلوكه في معركة الانتخابات، ورفضه الاعتراف بالنتائج، وقيامه بحملة شعبوية غير مسبوقة ضد قرار الناخب الأمريكي.
وعلى الرغم من العزلة النسبية التي يعاني منها ترامب هذه الأيام، فإنه لم يتوقف عن اتخاذ قرارات تضع العراقيل أمام الإدارة الأمريكية المقبلة، ومن بينها قرار اعتبار الحوثيين منظمة إرهابية، واتهام إيران بإيواء قيادة منظمة «القاعدة» وتشجيع إسرائيل على تكثيف هجماتها على سوريا، وإطلاق مشاريع استيطانية جديدة، والعمل على بناء جبهة عربية ـ إسرائيلية للتصدي لمحاولات إدارة بايدن تجديد الاتفاق النووي مع إيران.
تخشى إسرائيل أن تتدهور الأمور بين الولايات المتحدة وإيران، في أيام ترامب الأخيرة، نتيجة لقراءة خاطئة للنوايا وسوء فهم للتحركات، وأن يؤدّي ذلك إلى مواجهة عسكرية، يصل مداها إلى إسرائيل. وتستعرض القوات الأمريكية في الخليج عضلاتها، بادّعاء ردع إيران، وتقوم بتحركات للقوات والسفن الحربية وبتحليق متكرر لقاذفات بي 52 العملاقة. وإذ يزداد التوتّر لدى القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، فقد قامت في الأيام الأخيرة برفع مستوى الاستعداد لأذرع الجيش، وبتسريب ذلك لوسائل الإعلام، حتى تصل الرسالة الى إيران مباشرة. وفي هذا الإطار جرى الكشف عن تحرّك غواصة إسرائيلية، تحمل رؤوسًا نووية عبر البحر الأحمر إلى جهة «قريبة من إيران» وهناك ايضًا طلعات لطائرات سلاح الجو الإسرائيلي في أنحاء البلاد كافة، وعلى مدار الساعة تأهبًا لأي طارئ. لهذا الحراك هدف مزدوج، فمن جهة هو استعداد لكل ما يمكن أن يحدث في أيام ترامب الأخيرة، ومن جهة أخرى استغلال التوتر لاستعراض القوّة وتوجيه رسالة الى إيران حول الذي «ينتظرها» في حال حصلت مستقبلًا مواجهة عسكرية. ومن المحتمل أيضًا أن يكون هذا التوتّر مفتعلًا للقيام بهذا الاستعراض للقوّة.
اقتحام الكونغرس أضعف شرعية ما قام به ترامب، ما يسهّل عملية إلغاء أو تجميد المشاريع والخطوات المرتبطة بفترة حكمه
وتستغل إسرائيل أيام ترامب المتبقية في البيت الأبيض، لتكثيف هجماتها العدوانية على ما تسمّيه أهداف إيران وحزب الله في سوريا. هي تقوم بهذا التصعيد استنادًا إلى فرضية أن إيران لن ترد، وانّها لن تسمح لغيرها أن يرد، حتى لا تفسد الأمور مع الإدارة الأمريكية الآتية إلى البيت الأبيض، وحتى لا تعطي ترامب ذريعة للقيام بهجوم عسكري عليها. وتأتي هجمات الأيام الأخيرة، التي ذهب ضحيتها العشرات، في ظل رضى أمريكي قد يتغيّر بعد ذهاب ترامب ومجيء بايدن، وما قد يليه من تحسين العلاقات بين إيران والولايات المتحدة، التي ستعود إلى إعادة صياغة سياساتها تجاه الملف السوري أيضًا. وإذ ينهي ترامب عمله السياسي في البيت الأبيض، يستعد صديقه، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو لانتخابات جديدة يأمل ان يحصل خلالها على أغلبية مطلقة، تمكنه من تغيير القوانين كي يحمي نفسه من السجن، ومن تنفيذ ما يريد بحرية. لقد تعوّد نتنياهو، في حملاته الانتخابية، على الحصول على هدايا «ثمينة» من ترامب، وقد حصل فعلًا على هدايا كبيرة في الأشهر الأخيرة، وفي مقدمتها اندفاع عدد من الأنظمة العربية للتطبيع والتحالف العلني مع إسرائيل، بدعم وتشجيع من ترامب وإدارته. الاتصالات المكثّفة بين القيادات العسكرية الإسرائيلية والأمريكية وصفقات الأسلحة، التي لم يعلن عن تفاصيلها بعد، ولقاء رئيس الموساد يوسي كوهين وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في «مقهى في واشنطن» هي مؤشرات إلى احتمال وجود هدايا سرية قد يعلن عنها لاحقًا.
ما ليس سريًّا هو الإعلان، قبل أيّام، عن خطّة استيطانية جديدة تشمل بناء ما يقارب 800 وحدة سكنية. ويأتي إقرار هذه الخطّة بعد إعلان بلدية القدس عن مخطط بناء 8300 وحدة، وتوسيع منطقة «تل البيوت» المتاخمة لبيت لحم، وهناك خطط أخرى جرى إقرارها في مسعى للاستمرار في حمّى الاستيطان، حيث وصل عدد الوحدات الاستيطانية، التي تم بناؤها عام 2020، أكثر من 12 ألفًا، ما يشكّل ارتفاعًا ملحوظًا مقارنة بالسنوات الأخيرة. لقد تبنّت إدارة ترامب موقف المستوطنين حول شرعية الاستيطان، وشملت «صفقة القرن» اعترافا بها جزءًا من إسرائيل، حتى بلا تسوية سياسية. وتحاول إسرائيل استغلال ما تبقى من أيام ترامب لإقرار المخططات الاستيطانية، ووضع الأسس لبدايات بناء على أوسع نطاق، خشية أن يضغط عليها بايدن لتجميد الاستيطان، وعندها سيكون بيدها الادعاء، أنها تستكمل فقط ما تم إقراره، وما جرى البدء في بنائه، وهذا يكفي حتى انتهاء ولاية بايدن. ويقوم السفير الأمريكي في إسرائيل، اليميني المتطرف دانيئيل فريدمان، بالضغط على الحكومة الإسرائيلية لتسريع المخططات الاستيطانية، قبل أن يرحل ترامب، خدمةً للمستوطنين وأملًا في زيادة العقبات أمام الإدارة الجديدة.
إمعانا في الاستمرار في الخراب حتى اللحظة الأخيرة، أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، عن أن الحوثيين في اليمن منظمة إرهابية، في خطوة تهدف إلى وضع العراقيل أمام إدارة بايدين في مسعاها المرتقب للعودة إلى المفاوضات مع إيران، وللاتفاق النووي، وفي محاولاتها البحث عن مخرج لإنهاء الحرب في اليمن، كما يطالب الكثيرون في الحزب الديمقراطي. من الواضح أن الولايات المتحدة أقدمت على هذا الإعلان، الذي سيدخل حيّز التنفيذ في 19.1.2021 يوما واحدا قبل حفل تنصيب بايدن، بعد أن طالبت بذلك السعودية وحكومة اليمن. وبما أن هذه الخطوة تضع العراقيل أمام المصالحة اليمنية، فهي تعبّر عن عدم رغبة السعودية بالتوصل إلى إنهاء الحرب وعن خشيتها أن تتعرض لضغوط من إدارة بايدن في هذا المجال. هناك إجماع على أن التأثير المباشر لتصنيف «أنصار الله» الحوثيين منظمة إرهابية، سيكون على حملات الإغاثة الدولية، التي تمنع المزيد من التدهور في حالة الكارثة الإنسانية، التي يعيشها الشعب اليمني، ومن الناحية العملية هذا عقاب لغالبية أهل اليمن وليس للحوثيين فقط. من اللافت للانتباه في هذا السياق أن إسرائيل نصبت بطاريات صواريخ حول مدينة ايلات شمالي البحر الأحمر، تحسّبًا لإمكانية تعرضّها لهجوم من اليمن، وقد أضافت إسرائيل الخطر اليمني ضمن التهديدات التي تأخذها بالحسبان، خاصة أنها متورطة في بعض جوانب الحرب الأهلية هناك. من الصعب تقييم تداعيات الإعلان الأمريكي المتأخّر، لكن من المهم الانتباه إلى أنه مهما فعلت إدارة ترامب في أيامها الأخيرة لضمان استمرار المواجهة في اليمن، فإنّ قرار الحرب والسلم يأتي من الرياض وليس من واشنطن.
وفي خطوة مفضوحة، هدفها عرقلة المفاوضات بين إدارة بايدن وإيران، وجّه وزير الخارجية الأمريكي تهمة إلى إيران بأنّها تأوي قيادات لمنظمة «القاعدة» وتسمح لها بإقامة معسكرات تدريب. هذه التهمة هي من النوع الثقيل في الولايات المتحدة، لأن «القاعدة» في الوعي الأمريكي ليست مجرد منظمة إرهابية، بل هي المسؤولة عن تفجير بناية التوأم ومقتل الآلاف من الأمريكيين. يعرف مايك بومبيو جيّدًا ان مثل هذا الكلام لن يمنع بايدن من الدخول في مفاوضات، لكنّه قد يضطره إلى وضع شرط إخراج «القاعدة» من إيران كجزء من المفاوضات، أو حتى كشرط لها، ووضع عراقيل جديدة امام سياسة بايدن في الشرق الأوسط. جاء اعلان بومبيو هذا، بعيد اجتماعه مع رئيس الموساد يوسي كوهين، المتواجد في واشنطن هذه الأيام للتنسيق، في ما يمكن لإدارة ترامب أن تفعله في اللحظات الأخيرة لمساعدة إسرائيل، بالأخص بكل ما يتعلّق بالملف الإيراني. ولا شك في أن زيارة كوهين تستهدف «عصر الليمونة» الترامبية حتّى آخر قطرة وحتّى آخر لحظة.
صحيح أن إدارة ترامب في مسعى محموم لنصب ألغام في طريق الرئيس المنتخب، جو بايدن، لكنّ اقتحام الكونغرس أدّى الى إضعاف مصداقية وشرعية ما قام به، وما يقوم به ترامب، ما يسهّل عملية إلغاء أو تجميد الكثير من المشاريع والخطوات المرتبطة بفترة حكمه. لقد خلق الهجوم على الكونغرس ميلًا جارفًا لدى الحزب الديمقراطي للتخلّص من إرث ترامب، وأضعف التوجّه نحو الاستمرار بالالتزام بما التزمت به الإدارة الجمهورية المنتهية ولايتها. يمكن استغلال هذا الوضع لرفع مطالب فلسطينية وعربية (هناك تردّد في استعمال هذه الكلمة بسياق الأنظمة) أصبحت الآن واقعية ومنها، إلغاء «صفقة القرن» جملة وتفصيلًا، وعدم الاكتفاء بوضعها على الرف، وكذلك شطب الاعتراف بضم الجولان، وتغيير الموقف بالنسبة للقدس، وعلى الأقل محو تعبير «القدس الموحدة» من القاموس السياسي للإدارة الجديدة، واتخاذ موقف حازم بالنسبة للاستيطان، استنادا إلى قرار مجلس الأمن 2334، الذي اتخذ في ديسمبر 2016 وغير ذلك من الأمور المرتبطة بترامب والمختلفة عن السياسات الأمريكية المعروفة. وإذ تعتقد إسرائيل ان ما حدث في تل الكابيتول يؤثر فيها سلبًا لارتباطها بترامب وتخشى من رياح جديدة مخالفة لإرثه، فإن على القيادة الفلسطينية بكل مستوياتها، الشروع بحملة تستهدف في مرحلتها الأولى رد الاعتبار لأولوية القضية الفلسطينية، واستغلال كل ثغرة لتحقيق ذلك، بما فيها بعض الثغرات في الموقف الأمريكي، الناجمة عن النفور من همجية ترامب، وما يمثله. مع الأخذ بعين الاعتبار، أن الولايات المتحدة منحازة لإسرائيل، وأن مواجهة إسرائيل تعني، في بداية ونهاية المطاف، مواجهة أمريكا. باختصار، من جهة العمل على تحقيق مكاسب على الساحة الأمريكية، ومن جهة أخرى الاستعداد لمواجهة السياسة الأمريكية المعهودة، التي سيعود إليها بايدن.
رئيس حزب التجمع الوطني في أراضي 48