1ـ هل يعد ما حدث ثورة؟ لا شك أن العديد من المحللين، بل الناس العاديين، اتخذ موقفا مما يجري بمصر وسوريا، وانحاز إلى هذه الجهة، أو تلك، وفق مسبقات في الفهم، أو وفق قناعات جاهزة، أو نماذج معلبة، بينما كان يقتضي الأمر نوعا من التحليل الرصين المستند إلى إدراك قائم على المعطيات، وعلى حساب الأسباب في علاقتها بالنتائج، والرؤية إلى كل ذلك في ضوء ما هو جيوستراتيجي في لعبة القوى العالمية المهيمنة، وفي ضوء مساءلة الاصطلاحات التي تشاع، ويراد منها أن تسمي وقائع ملتبسة. إن كل موقف متخذ وفق التحيز داخل منظور إيديولوجي جاهز (بما في ذلك الموقف العقيدي) لا يمكنه أن يكون مقتربا من الحقيقة الموضوعية، لأنه يتعالى على الشرط التاريخي، وعلى الوقائع ذاتها كما هي متحققة فوق أرض الواقع. ولعل أول ما ينبغي معالجته في سبيل وضوح الرؤية، هو صبط الاصطلاح الرائج في تسمية الحدث، ألا وهو الثورة. ماذا تعني؟ كيف تحقق مهامها؟ ما المعايير للحكم على أنها قابلة للحياة؟ لا شك أن الثورة تعني انتفاضة ما تقوم بها جماعة معينة من أجل تغيير أوضاعها بتغيير النظام، وتقنع مجموع الشعب بضرورتها، أو الجمهور. لكن لا تصير هذه الانتفاضة ما مكتسبة سمات الثورة إلا إذا أجهزت على النظام القائم برمته، لا من حيث هو نظام سياسي فحسب، ولكن من حيث هو نسق فكري أيضا، وهنا لا بد من التوضيح، إذ يعني الإجهاز على النسق الفكري الإتيان بفكر جديد يعد بنمط مغاير في الرؤية إلى العالم وعيشه. كما أن الثورة لا تستكمل معالمها إلا إذا كانت موجهة من قبل قيادة محددة تضطلع بعد نجاحها بالاستيلاء على الحكم، بغاية بلورة توجهاتها، وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. فهل هذا ما تحقق فعلا في جميع الدول العربية التي شهدت حراكا شعبيا أفضى إلى سقوط الأنظمة القائمة؟ لا أحد بمقدوره نفي ما حدث بهذه البلدان من حراك، ولا يهمنا هنا ما قيل عن ضلوع صناع القرار في العالم (الولايات المتحدة) في حدوث هذا الأمر، بقدر ما يهمنا فهم ما حدث، أهو ثورة أم لا؟ إن التحديد الذي وضعناه للثورة لا ينطبق نهائيا على ما حدث حتى نسميه كذلك. لماذا؟ لأن من قام بهذا الحراك كان محددا في جماعة من الشباب الذي استطاع بفضل وسائل التواصل التكنولوجية الحديثة أن يجعل من الشارع وسيلة للتغيير، وقد أفلح فعلا في تعبئة جموع الشعب في الالتفاف حوله من أجل إسقاط الأنظمة الحاكمة. لكن لم تكن هناك أهداف واضحة توجه هذا الحراك وتصل به إلى مستوى صياغة برنامج ثوري. صحيح أن هناك شعارا قد رفع، وصار عنوانا لكل حراك ينشأ في المنطقة العربية، لكنه لم يتجاوز الرغبة في إسقاط النظام إلى الإعلان عن رؤية مبنية على ما ينبغي فعله بعد حدوث التغيير. وفي أحسن الحالات دُعِّم شعار إسقاط النظام بشعار مواز، ألا وهو ‘حرية، كرامة، عدالة اجتماعية’، لكنه غير كاف لنقول بوجود برنامج ثوري مستند إلى رؤية سياسية واضحة. كما أن هذا الحراك (و/ أو الانتفاضة) لم يكن موجها من قبل قيادة معلومة ينسب إليها، قيادة تصوغ القرار وتوحده وتجعله قابلا للتنفيذ، بل كان حراكا هلاميا، يستمد قراره من التكيف مع اللحظة، ومن تفاوض جماعي منبعه مقدار تحول الحراك قوة وضعفا. وغياب القيادة التي بإمكانها تسلم مقاليد الحكم بعد إسقاط النظام أفضى إلى اختطاف ثمرة الحراك لصالح جماعات سياسية منظمة كانت تتربص بالتاريخ، وتنتظر الفرص السانحة من دون أن تمتلك القدرة على صنع التغيير على الرغم من صراعها مع الأنظمة. وتمثل هذا على نحو بين في حركة النهضة بتونس، والإخوان المسلمين بمصر. وهما حركتان لا يمكن أن ينسب إليهما اندلاع شرارة الحراك، وإنما تنسب إليهما القدرة على اقتناص الفرصة وتحويلها لصالحهما. هذه حقيقة لا ينكرها إلا متعنت، ومزور للتاريخ. وحتى إذا نحن تغاضينا عن هذا الأمر، فإن القوى التي استولت على الحكم (ولا يهم ما إذا كان فعلها هذا ديمقراطيا أو لا) لا تمثل أهم خاصية تميز كل ثورة ألا وهي الاستناد إلى فكر ثوري جديد يغاير الفكر القديم الذي كان عماد الأنظمة السابقة، فقد جاءت هذه القوى لكي تزكي فكرا تقليديا محافظا هو مناف في خصائصه لفكر الثورة، والأمر لا يتعلق هنا بما هو ديني، ولكن بالرؤية الفكرية التي تصوغ علاقة هذه الجماعات بالعالم والإنسان والطبيعة. 2ـ هل كان ما حدث حرا وبمعزل عن العالم؟ لا بد في فهم ما حدث من الانطلاق من مقدمة لا بد منها، وهي أننا نعيش في العالم، ولا ننفلت من حركة الصراع فيه بين القوى الفاعلة المهيمنة. فكل المناطق الاستراتيجية ذات الثقل في الجغرافية الاقتصادية والسياسية غير متروكة لكي تقرر مصيرها، وفق حرية إرادتها، فهي مراقبة، وخاضعة لتدخلات القوى المهيمنة، بل هي صائرة إلى أن تدخل كل مرة إلى غرفة العمليات كي يفعل فيها المبضع ما هو ملائم له. مناسبة هذه المقدمة أن ما حدث من حراك في العالم العربي، إن لم يكن قد خطط له- كما يزعم البعض- فقد استغل من قبل الولايات المتحدة بخاصة والغرب عامة، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحتى لا نتهم بالرجم بالغيب ينبغي أن نستند إلى الوقائع، فهي وحدها قادرة على الإفصاح عن الحقائق. إن التدخل العسكري في ليبيا لم يكن خفيا، بل كان يحدث في واضحة النهار. هل كان هذا التغير في سياسة الغرب تجاه أنظمة الحكم المعتادة مجرد نتيجة لفقدانه الثقة في قدرتها على ضمان مصالحه؟ لا نظن ذلك. هناك أكثر من سبب يجعلنا نجزم بهذا الظن. أولها أن مشروع إعادة توزيع الأوراق في الشرق الأوسط قد رسمت ملامحه في التسعينيات من القرن العشرين على نحو نهائي، لكن ما اختلف هو طريقة التنفيذ وبخاصة على مستوى الزمن. ما كان ممكنا حدوثه في حينه قد تأخر فحسب. يقوم هذا المشروع على عنصرين هامين: اـ التقويض من الداخل عن طريق إضعاف المناعة في الجسد العربي، وهذه المناعة تكمن في الوحدة التي تستمد من الانتماء إلى الدم العربي. ب- تفكيك الكيانات الكبرى إلى قطع صغرى حتى تصير غير قادرة على أن تكون معتمدة على نفسها في حماية ذاتها، وهذا العنصر الثاني لا يمكن تحقيقه إلا بتحقق العنصر الأول. لم يعلن عن هذا المشروع من حيث هو خطة مفصلة، وإنما رفع شعاران يشيران إليه، وهما الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد. وكان العراق بمثابة العينة التي قرر تجريب المخطط عليه، وقبله حرب لبنان التي سميت بالحرب الطائفية. لم تكن الطريقة المعتمدة في التنفيذ واضحة وقتذاك، وإن كانت العناصر ظاهرة للعيان، وما يجعلها أكثر وضوحا اليوم هو تكرار هاته العناصر. وهي تتلخص في ثلاثة: الفيروس الداخلي الذي يهدم المناعة، والمجال الحيوي اللازم له كي ينتعش، ثم انقضاض الفيروس الخارجي بعد إنهاك الجسد. 3ـ الأهداف غير المعلنة : إن ما حدث في تونس وليبيا لا يمثل مقصدا رئيسيا في المشروع الأمريكي، لأنهما بلدان بعيدان عن مجال الأهداف الاستراتيجية، وقد كان الابتداء بهما مجرد تعويم حتى لا ينكشف المخطط، ويعطى له طابع عام، فعلى الرغم من كون ليبيا بلدا نفطيا فإنه يشكل من حيث البعد الاستراتيجي أهمية أقل قياسا إلى دول الطوق المتمثلة في العراق وسورية ومصر. وقس على ذلك اليمن. وكما قلت في كلمة بصحيفة الاتحاد الاشتراكي، فإن الثابت في سياسة أمريكا في الشرق الأوسط يتمثل في شيئين: الحفاظ على أمن إسرائيل، والهيمنة على منابع النفط. ومن ثمة فلا شك أن هذا الثابت يمثل دوما الهدف الرئيسي، لكن من أجل الاستمرار في الحفاظ عليه لا بد من سياسة متكيفة مع التحولات الطارئة في المنطقة. ولذلك اقتضى الأمر على الدوام تسطير أهداف موازية تتمثل في ضمان التحكم في إحكام الطوق على المنطقة أمام بروز القوى المتطلعة في العالم. هذا فضلا عن تذكير العالم بما فيه من قوى جديدة بأن الولايات المتحدة ما زالت القوة الوحيدة التي تتحكم في مصير العالم، وبخاصة في مصير منطقة حيوية تعد حاسمة فيه ألا وهي الشرق الأوسط. لكن علينا أن نفكر أيضا في هذا الصدد في التحالف القوي بيتها وإسرائيل، وفي الثقل الذي تمثله هذه الأخيرة في صناعة القرار داخل دواليب الحكم بالولايات المتحدة. إن إسرائيل مهددة على مستوى توازن النمو الديمغرافي بين العرب واليهود. ولا تستطيع أبدا التحكم في هذا الأمر، مما يضطرها إلى التفكير في التخلص من فلسطينيي 1948. ولن يتحقق لها هذا إلا بتحويل في طبيعة كيانها بإكسابه طابعا دينيا؛ أي جعله كيانا يهوديا صرفا، ومن ثمة يصبح السكان العرب غير منتمين إليه آليا. إن أمرا من هذا القبيل لا شك سيحول الكيان الإسرائيلي إلى كيان عنصري يجد نفسه محاصرا بالقوانين الدولية. لكن هذا المأزق يصير محلولا في الحالة التي يجد نفسه مطوقا بدول دينية؛ إذ يمنحه واقعا من هذا القبيل الحجة لممارسة حقه في تطبيق ما تقتضيه الدولة الدينية. يقتضي الهدف أعلاه وجود منطقة تستوعب كل طرد ممكن للسكان العرب، ولا بد أن تكون هذه المنطقة قريبة من حدودها، وتعد سيناء أرضا أكثر من مناسبة وبخاصة للبدو الفلسطينيين. غير أن تحقيق مثل هذا الهدف يتطلب أن يكون الجوار مستعدا لتقبل استيعاب الملفوظين من الكيان الإسرئيلي. ولن يكون ذلك ممكنا إلا بأمرين: ا- وجود دولة لا تؤمن بما هو جغرافي، وتعلي القيمة الدينية على كل انتماء وطني، وأدبيات الإخوان في هذا الجانب هي أكثر من ملائمة. ب وجود دولة منقسمة ومتناحرة منزوعة من جيشها القوي ومفتقرة إلى وحدة وطنية قوية؛ مما يسمح باقتطاع جزء هام من أرضها من دون وجود مقاومة. ومن ثمة تصدير المشكل إلى الجوار بدلا من أن يظل مشكلا داخليا. من دون استحضار التحليل أعلاه لا نستطيع فهم ما يحدث اليوم بمصر. فالأمر لا يتعلق بمسألة الديمقراطية أو الشرعية، ولا بمسألة جماعة تتخذ من الدين غطاء كي تحقق مآربها ومصالحها من حيث هي قوى محافظة وتقليدية، وإنما باصطفافين سياسيين: أحدهما وطني يدرك بخبرة الصراع التاريخي ما يحبك في الخفاء، من دون الإعلان عنه، وثانيهما يسعى إلى تحقيق مصلحته الماثلة في العودة إلى الحكم بعد فقدانه بالتحالف مع الولايات المتحدة، وتمكينها من تطبيق مشروعها عن وعي أو من دون وعي. وعلينا أن نمتلك قدرا من الشجاعة لنقول إن مسألة الديمقراطية ينبغي النظر إليها في أفق البناء التاريخي لقواها الأساسية، ولسياقها الموضوعي الذي لن يكون واردا أبدا من دون وجود شعوب تمتلك القدرة على صحة الاختيار المستند إلى وعي بآلياتها، وإلى حد أدنى من الحصانة ضد المغالطات وتزييف الإرادة وشراء الذمم.