لم تعد مقولة الشاعر الإنكليزي كيبلينغ «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً»، مقولة صحيحة لأنها تنتمي إلى العصر الاستعماري الذي كرّس الميز العنصري والتفرقة، بل لأن عهد الاستعمار ذاته كان ينطوي على ما بعده. فخاصية الاستعمار الجوهرية أنه يرتب لما بعده، لأنه قائم على النسبية والمرحلية وعدم الثبات، الذي يعني من جملة ما يعني أن خصومه ينتجون مضاداته التي عرفت بالحركات الاستقلالية والتيارات الوطنية التحريرية. ليس هذا وحسب، بل لأنه مكَّن المستعمرين والمستضعفين من مقاومته باللغة والتقنية التي جاء بها إلى بلاد المستعمرات. وقد عَايَن وخبر ذلك الشَّاعر صاحب المقولة في الهند التي ولد فيها، وهي التي بلورت مدرسة ما بعد الاستعمار، في ما عرف بالدراسات الثقافية في بلاد الغرب نفسه، حيث الديمقراطية والاستقرار وإمكانية اللقاء وليس التنافر والصد والابتعاد.
لم تعد مقولة كيبلينغ صحيحة، لأن الذين روجوا لها أكثرهم سكان البلاد المحتلة ومثقفوهم ونخبهم، الذين وجدوا في معنى المقولة شرحا ضافيا لما يريدونه من الاستعمار كريع على صعيد الذاكرة والتاريخ، وأن خطابهم الأيديولوجي والفكري جاهز، يمكنهم التحدث به إلى الجماهير الجديدة التي لم تعرف مستعمر الأمس. فمعاداة ومناهضة الغرب من قبل الشرق، خطاب تغريبي أيضا لأنه يتحايل على حقيقة ما كانت عليه الأوضاع زمن الاستعمار وما آلت إليه بعد ذلك، عندما عادت الأوضاع إلى أصحاب الوطن، الذين ذهبوا إلى استغلاله بخطاب مناهض للغرب بعد ما أخفقوا في بناء دولهم التي حرروها على هذا الأساس، وعليه فإن لحظة ما بعد الاستعمار هي لحظة اللقاء ليس بمعنى ما، لكن بكل المعاني، لأن في الغرب جزء كبير ومهم من الشرق، والعكس أيضا صحيح عندما نتطلع إلى ما حدث ويحدث في بلدان شرق آسيا وفي الصين والهند وتركيا وبعض بلدان الخليج العربي.
إن الشرق الذي أبدعه الغرب، جرى تجاوزه على صعيد البحث والدرس والمعالجة الفكرية، في سياق مناقشة عالمية لكتاب «الاستشراق» للباحث والناقد إدوارد سعيد في ثمانينيات القرن الماضي. فقد انكب الغرب كله، على صعيد مؤسساته العلمية ومراكز ومخابر بحوثه المعرفية والتوثيقة، إلى تناول موضوع الشرق والغرب والاستشراق والاستعمار والعرب والإسلام، وكل المفردات التي نفخ في روحها لكي تقدم معاني جديدة في عهد جديد هو عهد «ما بعد الكولونيالية»، وأغلب روادها من لهم أكثر من انتماء على منوال المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد نفسه. وعليه، فمقولة كيبلينغ تندرج في الخطاب الرومانسي الذي يريده الشاعر، وليس كما يريده المناضل الإنساني، الذي ظهر أيضا في ذلك العصر البغيض من تاريخ الاستعمار. لكن الجانب الذي جرى التعتيم عليه هو قوة اللقاء الفكري والعلمي والمؤسساتي بين الشرق والغرب، في علاقات بينية لم يكتب لها الوضوح الكامل في مدارس التعليم العربي.. ليس بداية من ميلاد حركات التحرر والاستقلال في بلاد الغرب، خاصة باريس لندن وبرلين وجنيف.. وليس انتهاءً بنجوم الرياضة العالمية فيها، الذين يصعب جدّا تحديد أصولهم وجنسياتهم وقومياتهم، لأنهم نشأوا في لحظة اللقاء العالمي بكل ما تنطوي عليه من قوة حضور العولمة في تجلياتها الراهنة والمعاصرة.
خاصية الاستعمار الجوهرية أنه يرتب لما بعده، لأنه قائم على النسبية والمرحلية ما يعني أن خصومه ينتجون مضاداته التي عرفت بالحركات والتيارات الوطنية التحريرية
مقولة «الشرق شرق والغرب غرب.. ولن يلتقيا أبدا» تسلّلت أضرارها إلى المؤسسات الجامعية، خاصة في البلدان التي عرفت حالة استعمار استيطاني، مثل الجزائر، التي ألحقت قانونيا عام 1834 بالمتروبول الفرنسي، كجزء من التراب الفرنسي، وقد استحكمت هذه المقولة في المناهج والمقاربات، وفي طريقة النظر إلى الغرب من خلال ستار الاستعمار ودخانه لما بعده، حيث سارع الذين حاربوه إلى الاستثمار فيه كأفضل سبيل إلى مواصلة الحرب بطريقة أخرى، كأن يعمل على إبعاد الآخرين من أهل الوطن من مزاحمتهم على خيرات وفوائد ومصالح الغرب عليهم. الشرق الذي لم يكف عن بلورة وبناء خطاب الكراهية حول الغرب هو الجانب الذي يُتَستر به عن المآزق الهيكلية والأزمات البنيوية التي تعاني منها الأنظمة السلطوية العربية، وتحرم شعوبها من اللقاء التلقائي والعفوي مع الغرب، الذي لم يعد غربا عندما نعيد قراءة واعية لحضور الإسلام ووجود العرب فيه. وهذا الشطر من وجود الشرق في الغرب.. لا يقابله للأسف وجود الغرب في الشرق على المنوال نفسه الذي يحضر فيه الإسلام والعرب في الغرب، الذي صار في المدة الأخيرة يدفع إلى الفزع والتحوّل وتغيير ملامح وبنية النظام ذاته، بل صرنا نصدر آراءنا واحتجاجاتنا ومواقفنا في قضايا تهم حصرا البلدان الغربية وكأننا ننتمي فعلا إلى هذه البلدان.
كان البديل الحقيقي لنظام الفصل والتمييز العنصري الذي يعود إلى عهد الاستعمار، هو اللقاء المدني والحضور الفوري في المجال والفضاء نفسه الذي يساعد الإنسان الغربي والإنسان الشرقي على السواء، لأن العولمة في آخر تطوراتها وفي أقصى حالات الشعور بها تبرز الملامح والقَسَمات والخصائص، على عكس ما يحكم عليها من أنها ميكنة زمنية كاسحة ومنمطة للمقومات وموحدة للهويات.. لا، العولمة هي سياق فائق يبرز التاريخ في أبعاده كافة، وفي قوة حضوره واحتمالاته. والدول والمدن التي تمكنت من توفير هذا النوع من اللقاء هي التي واتتها المناسبة والفرصة لكي تحظى بالدولة أو المدينة الأكثر إقبالا عليها وقدرة على استضافة العالم كله إليها، مهما كانت صغيرة على صعيد الجغرافية والكثافة السكانية، على غرار ما تطورت إليه دولة قَطَر التي ستقيم أكبر وأعظم حدث رياضي في تاريخ البشر، نهاية هذا العام، بعد ما تمكنت منذ عقود من اطُلَاع العالم كله على آخر ما يجري فيه مع الشرح والتحليل واللقاء الفعلي.
في نهاية التحليل والمطاف، نسارع إلى القول بضرورة إعادة قراءة وكتابة لحظة الاستشراق كما ظهرت في التاريخ المعاصر، ونقصد الربع الأخير من القرن التاسع عشر، عندما شرعت المؤسسات الجامعية الأوروبية في تأسيس مناهج ومقاربات مبادئ العلوم الإنسانية والاجتماعية والنقد الأدبي، فقد تم كل ذلك في إطار من اللقاء والحضور واحتمالات تبادل وتكامل المجالات المعرفية، وكادت تؤدي إلى ما هو أفضل لو لم تتدخل الأنظمة التسلطية والخطابات الشعبوية المناهضة للآخر، على ما جرى في الجزائر التي حاصرها النظام بمواصلة محاكمة الاستعمار كأفضل سبيل إلى ابتزازه واستغلاله بتلقين خطاب الكراهية والاستثمار فيه بشكل مفرط..
كاتب وأكاديمي جزائري
جميل. هل الربط المفاهيمي المحض للشرق والغرب لا يخرج عن اطار الذاكرة. او بعبارة أدق عن صراع إثني و استغلالي للقوي على الضعيف… لأنه في الأقوال الشعبية الجزائري أيضا يوجد قول ينطبق بنفس المواجهة التي وصفتها أستاذنا ولكن على الإخوة واقصد به عبارة الشامي شامي والبغدادي بغدادي. والذي تعود أصوله الى صراع الإخوة ابناء هارون الرشيد.