الشعبويّة أصناف، منها اليميني ومنها اليساري، تشترك شعبوية الأول مع شعبوية الثاني في اختزال السياسة إلى تضاد محتدم بين «الشعب» وبين «المؤسسة الحاكمة» أو «الطبقة الحاكمة» فيما الشعب نفسه يُعرّف بمعيار المجانسة الثقافية – الهوياتية في حال الأوّل، وبالإحالة إلى منظار مساواتي إجتماعي «ما» في حال الثاني.
الفارق بين اليميني الشعبوي وبين اليميني المحافظ كما الليبرالي إنما غير الشعبوي، أن صاحبنا المحافظ ينظر الى المجتمع كمجموعة بنى ومؤسسات متوارثة، وكعقد اجتماعي بين أجيال، في حين أن الليبرالي ينظر الى المجتمع كعقد بين أفراد الآن وهنا. انما ليس عند أي منهما من استعداد لاختزال السياسة في صراع بين «شعب» وبين «استبلشمنت» ولا التفكير بأن الإصلاح يمكن أن يحدث من دون التدرّج، وتعديل موازين القوى، واستمالة هذا والابتعاد عن ذاك.
كذلك الفارق بين اليساري الشعبوي وبين اليساري غير الشعبوي. الثاني لا يمكنه، وبخاصة إذا استعان بأثر كارل ماركس أن ينظر الى المجتمع كقسمة بين «شعب» وبين «استبلمشنت» أو «طبقة سياسية» أو «منظومة». فهذا من الموقع الماركسي يساوي هراء محض. صحيح أن مقولة «الشعب» تختزن مضموناً اجتماعياً الى حد كبير، فعندما نقول عن فن أو عن مطعم أنه شعبي فهذا يفيد مضموناً اجتماعياً عامياً ما، لكنها حين تساق على أنها تفيد ذات جماعية متجانسة تخوض صراعاً ضد «طبقة حاكمة» فهذا على النقيض تماماً من صراع الطبقات.
مفهوم الطبقة السياسية يتحرك هنا لمحاولة اغتيال مفهوم الطبقة الاجتماعية. لا يعني هذا في المقابل أن كل النزاعات الاجتماعية على الموارد وعلى الثروة هي صراعات طبقية. عندما تتصارع قبيلتان على موارد فهذا لا يجعل صراعهما طبقياً. يبقى أنه من يرمي اسناد نشاطه السياسي على فهم حركة المجتمع لا يمكن أن يختزل الأخيرة في تضاد بين «الشعب» ككل وبين «الطبقة الحاكمة» ككل. يمكن تقبل ذلك في بعض الأحيان، في مفترقات استثنائيّة، خاصة عندما تحدث
القومات الجماهيرية، وينفجر غضب الناس في الشوارع. أما حين تنكمش الحركة الشعبية يصير تمييز النزعات والمصالح والتطلعات المختلفة داخل كل مجتمع أساسياً.
كذلك، فاذا كان اليساري الشعبوي يستريح بل يبحث عن زعيم كاريزماتي يلهمه ويتنسب الى حركته العمودية، فليست هي حال اليساري غير الشعبوي، كنموذج المناضل الحزبي الشيوعي الكلاسيكي، فهذا ومهما انزلق في «عبادة الفرد» بالنسبة الى «الأمين العام» لحزبه الا أنه يميل الى قدسنة الحزب بحد ذاته أيضاً. وهذا غائب عند اليساري الشعبوي. يزاول قدسنة الشعب وقدسنة «ملهم الشعب» لكن الحركة السياسية نفسها التي يقودها ملهم الشعب هذا لا تأخذ كثيراً من طاقته وحماسته. هي مجرد صلة وصل بين الشعب وبين الزعيم اليساري الشعبوي.
لكن الشعبوية لا تنقسم فقط بين يمينييها ويسارييها. هي تنقسم أيضاً على ما يسجل بيار روزنفالون في كتابه «قرن من الشعبوية» 2020 بين شعبوية قائمة على تجسيد «الشعب الواحد» في «واحد من هذا الشعب» وبين شعبوية أكثر تفلتاً، تنحو الى تمجيد الشعب العاصي في الميادين والاحتجاجات، انما هو عندها شعب غير مجسد في وجه واحد، بل هو شعب ممتلئ بالوجوه «العادية».
وهي تتقلب بين هذه الوجوه، لا تمكث على واحد منها طويلاً، فالمعيار عندها هو «الشخص الخارج من العدم» الذي يبرز أثناء حراك اجتماعي أو سياسي لفترة ويسلّط عليه اهتمام الميديا والسوشل ميديا، ثم ينتقل الاهتمام لبطل «عادي» خارج من حيز العدم الى حيز المشهد الكبير.
هناك أزمة عابرة للبلدان اليوم هي أزمة الإفراط في التشريعات، أو تضخم كم التشريعات على حساب روح الشرائع
هذه «الشعبوية البلا زعيم» انما الكثيرة الاحتفال «بأبطال عاديين» يحتفي بهم الناس لأيام ثم يلومونهم لأنهم خرجوا عن سجيتهم و«انحرفوا» هي الصنف الذي شاع في انتفاضات الربيع العربي 2011 ومن ثم في الحركة الاحتجاجية التي عصفت بلبنان في خريف 2019.
وهذه الشعبوية «اللاتجسيدية» أي غير الرامية بل غير المتقبلة بل المتحسسة سلباً لظهور قيادة كاريزماتية مقاتلة ومفوّهة، إما أن تدفع باتجاه ما يحاكي جزئياً، وجزئياً فقط، المخيلة الأناركية، اللاسلطوية، وإما أن تدفع باتجاه ما يمكن الاصطلاح على تسميته، بكل مفارقة، «الشعبوية النخبوية».
درجت العادة أن تكون الشعبوية قائمة على خطاب يمجّد الشعب في مقابل السلطة الحاكمة والنخب المتحلقة حولها. لكن عندما يحصل التنديد بالسلطة الحاكمة في مقابل تمجيد «المثال التكنوقراطي الأعلى» كحلال المشاكل، أي حين يجري التنديد «بالسلطة» في مقابل امتداح النخب، أو بالأحرى حين تسترسل هذه النخب بامتداحها الذاتي، ويفرض هذا الامتداح الذاتي على أوسع نطاق إعلامي على أنه «الخبز اليومي للشعب» وحين تجمع هذه النخب بين سخطها من «السلطة» وبين فوقيتها «التوعوية» تجاه الناس، اذاك نكون أمام ظواهر «شعبوية نخبوية».
الشعبوية النخبوية لا تسعى لأن يتجسد الشعب في «زعيم ملهم». انما تريد من الشعب أن «يرى أمله» في هذه النخبة التي هي منه وليست منه في آن. بعض هذه النخبة أصولها عامية، والبعض الآخر لهم امتيازات وجاهية و/أو مادية متوارثة. ويختلط هؤلاء، مع تشنجات تخفت وتعلو. لكن ما يجمعهم هو نمط علاقتهم مع الشعب. يحبونه كصورة ملتهبة في الميادين. يحبونه وهو يهدر ويندد بالحكام، لكنهم لا يثقون به. يتحسسون آلامه، ويرتابون منه في الوقت نفسه. أو بالأحرى يرتابون مما يعتبرونه سذاجة الشعب.
بالنسبة للنخبويين الشعبويين هؤلاء، عندما يترك الشعب لحال سبيله ولا تقوده النخب يعود هذا الشعب أدراجه الى عند أصحاب الصولجان. هم يريدون «توعية» الشعب و«تحسس» وجعه وانتزاع التفويض منه بالحق أو بالوهم. أما التعلم من الناس، فهذه قلما تخطر في بال النخبويين الشعبويين. المثال الأعلى عندهم هو تولية أصحاب الخبرة والكفاءة لمقاليد الأمور، من بعد انتزاعهم التفويض الشعبي. لكنهم يصرون في الوقت نفسه على معاملة سلك التكنوقراط كما لو أنهم «رهبنة» في خدمة الشعب.
ولأجل ذلك مثلا، تجد الشعبويين النخبويين عشية الاستحقاق الانتخابي في لبنان يطلقون العنان لشهوتهم التشريعية. يقول لك الواحد منهم إنه يتحرق للدخول للبرلمان «كي يشرّع» ويطرح مشاريع القوانين الفلانية.
لن تجد بينهم مثلا من بمستطاعه أن يدرك أن هناك أزمة عابرة للبلدان اليوم هي أزمة الإفراط في التشريعات، أو تضخم كم التشريعات على حساب روح الشرائع، على ما أبدع توصيفاً أستاذ القانون العام في جامعة أساس دوني بارانجيه في كتابه «تفكر القانون» 2018. تزايد التشريعات ليس حلا لكل المشكلات بل مشكلة إضافية. تماما مثلما أن تزايد دور القاضي الدستوري في مراقبة دستورية القوانين يمكن ان ينمي النظرة الى الدستور نفسه كما لو أنه مكتوب بالهيروغليفية ويحتاج فقط الى عارفين بها لفك طلاسمه، ولا يفترض بالفكرة الدستورية الحديثة أن تكون أصلا كذلك. فما معنى انبثاق الدستور عن الإرادة الشعبية حينذاك؟!
ومن المقولات التي يسوقها الشعبويون النخبويون بلا اختبار نقدي، بلا مسافة، بلا محاولة تسييق، شعار «استقلالية القضاء». لم يبق مرشح لم يرفعه في لبنان اليوم. هذا في حين تنحو الحركات الشعبوية «غير المستلبة نخبوياً» على العكس من ذلك، أي الى التخوف من ديكتاتورية القضاء، وضد تماديه باستقلاليته وتحوله الى دولة داخل الدولة، ضد تغوّله في الدولة، ما دام لا يستند الى تصويت شعبي. هذا إن وضعنا جانباً التجربة الأمريكية الجزئية لكن البالغة الأهمية، ان على مستوى انتخاب القضاة في بعض الولايات، او على مستوى التصديق الشعبي على الأحكام القضائية.
اذا، جميل أن تتحدث في الصباح والمساء عن قضاء مستقل وشفاف وعادل، لكن السؤال هو إن كان من الممكن ذلك دون أن يستند الى مرجعية انتخابية شعبية، ومن دون تكريس القضاء كسلطة دستورية.
وهذا ما يفرق التجربة اللبنانية عن الباكستانية مثلا. حالتان من الديمقراطية المحدودة والهشة، لكن على الأقل في باكستان ثمة محكمة دستورية عليا، لم تستطع الديكتاتوريات العسكرية تطويعها. ليست منتخبة شعبيا، لكنها نمّت مع الوقت حصانة جماهيرية استثنائيّة، تقارن بما كان يناله الفقهاء والقضاة المحبوبون والمعروفة عنهم الاستقامة والمسافة بازاء السلطان، على مدى التاريخ الإسلامي، من شعبية حمائية لهم.
أما استقلالية قضاء معلقة في الفضاء، ومرهونة بتضخم تشريعات تسن هذه الاستقلالية، ومن ثم بالتعويل على العوامل الذاتية والمعنوية من جهة وعلى المحاسبة داخل المؤسسة القضائية، فهذا على أهميته في بعض الجوانب، لكنه لم ولن ينفع، والدليل هو أن كل المرشحين يتحدثون عن استقلالية القضاء، والجميع يدرك أنه كلام معد للتكرار الطقوسي والطاووسي عشية كل انتخابات.
كاتب لبناني
استقلالية القضاء ليست منة من الحاكم او شعار من الشعارات ………! بل عقلية فردية للقاضي في اي مجتمع كان ……! استقلالية القضاء عماد العدل و العدل اساس العمران ………!