الشعب والتاريخ معاً

آخر ملامح الحراك الذي يسود ميادين مدن الجزائرية، هو أن الشعب لا يريد أن تَضِيع منه اللحظة التاريخية التي يواجه فيها السلطة، بالقدر الذي لا يترك لها المجال أن تتحدث عنه، بل هو الذي يقوم بفعل تسجيل الحدث الذي يصنعه. فالحَدَث يأخذ معناه مع الذي يصنعنه في لحظة معاصرة فورية، لا تفصلها أي فترة زمنية. فترة اتصال الحدث مع صانعه هو الذي يُطلق عليه باللحظة الأبدية، أي لحظة توحد وانصهار تام بين الُمبدع وإبداعِه.
نَزَل الشعب الجزائري إلى الساحات والميادين العامة في لحظة تاريخية مكثَّفة بكل الأبعاد الزمنية، لا تترك الماضي يمضي، ولا الحاضر يضيع وعينه دائما على المستقبل. كل ذلك في لحظة أبدية لا يصنعها إلا الكبار، الذين بحوزتهم قدرة على تغيير دفة مصير الشعوب والأمم والدول. هذه اللحظة التي يتوحد فيها الشعب مع تاريخه، هي التي انْطَلَت على السلطة ولم تَعِر لها الاهتمام ، بل لعلّها لا تستطيع ذلك أبدا. من أين لها أن تَقْدر على منع الشعب من أن يلتقط الواقعة فور حدوثها في كل تعبيراتها: نصا، صورة وصوتا. فقد كان الملمح السائد في ساحات وميادين المدن الجزائرية أن الكل «مسلح» بأجهزة التواصل والاتصال في آخر تقنياتها، فما من شاردة أو واردة إلا التقطها، بالقدر الذي يصعب على السلطة أن تزيِّف أو تُحوّر أو تُعَدّل. فالحدثُ هو كما حدَثَ، لا يقبل إلا قراءة الصورة ذاتها.
إن الحراك الشعبي الذي يجري هذه الأيام في الجزائر يعاصر لحظته الزمنية، ولا يترك أي فاصل يقطع عليه التواصل التاريخي مع الحدث. فالحراك يتم في مواجهة سلطة مناوئة له، ويسعى بكل ما أوتي من جهد واجتهاد إلى أن لا يترك اللحظة تمر من دون تسجيل، مخافة تسلل السلطة بأجهزة قراءتها المغيبة لمعاني ودلالات الحدث كما هو. وعليه، فعندما نؤكد على الحقيقة التاريخية لهذا الحراك، فبمعنى أن الشعب يصنع تاريخه في وقت معاصر له، أي في لحظة محايثة للفعل، لا تفلت من لقطاته وفصوله.. الشعب مع التاريخ. ومن هنا مصدر قوة الحراك في نسخته الجديدة: صناعة التاريخ وتسجيله في آن، عبر مقاومة خاصيتها الجوهرية، السلم والأمن للجميع. الحقيقة أن التاريخ المعاصر هو آخر فصول التاريخ بعنوانه الكبير. فقد صرنا نعرف، خاصة طوال القرن العشرين، أن تاريخ الإنسانية مرّ بمراحل هي ما قبل التاريخ والتاريخ القديم، الوسيط والحديث، ثم المعاصر، مع بداية الحرب الكبرى (الحرب العالمية الأولى) لكن، كل شيء تغيَّر في عصر تكنولوجية المعرفة الفائقة، التي مكَّنت الإنسان من الانتقال إلى لحظة زمنية أخرى لم تَتَحدد ملامحها بعد، لأنها من جنس التاريخ المعاصر، أي من التاريخ الذي يجب أن لا يَمُر، يبقى دائما معاصرا لنفسه. وهكذا، فإننا نعيش لحظة عالمية بكل تجلياتها وملامحها ومحدداتها، نتواصل مع العالم عبر أجهزة التواصل الفائقة، التي تعد أفضل قاسم مشترك بين بني البشر، حيثما كانوا في هذا الكوكب، فالسلطة اليوم محاصرة في الداخل وفي الخارج، لأن مشاهد الحراك تنقل فورا إلى العالم، ويطلع عليها، على المباشر والاتصال الحي، من دون فاصل زمني، فالمشاهد المذاعة عبر العالم تحمل مصداقيتها وصدقيتها، لأنها تمت عبر شعب خرج عن بكرة أبيه، يصْدع بالحق والقانون، ويهتف بسقوط النظام، وفي يده أجهزة التصوير على تَعَقُّدها وتَطَوّرها التكنولوجي.

الحراك الشعبي في الجزائر يعاصر لحظته الزمنية، ولا يترك أي فاصل يقطع عليه التواصل التاريخي مع الحدث

وبتعبير آخر يفيد المعنى ذاته، نقول اندراج الحراك الشعبي في التاريخ، ليس في تعبيراته المحلية فحسب، بل في مدلولاتها الإنسانية والعالمية أيضا، لأنه يلتمس السلم كأسلوب مقاومة، ويستخدم تكنولوجيات الإعلام والاتصال، لتسجيل الحدث كما يعرفه ويدركه من في الداخل، كما يعرفه ويدركه من في الخارج. حقيقة لا تنطلي على أحد، فقط على السلطة التي آثرت أن تحافظ على صورتها النمطية التي تعود إلى عصر ما قبل تاريخ الديمقراطية والفضاء الحر وعصر السيبراني.
كان الكاتب الفرنسي ألبير كامو يعتبر الصحافي مؤرخ اللحظة، يكتب عن الحدث والواقعة والموقف فور حدوثه ويعلق عليه أيضا. وعبارة كامو تشير إلى دخول مهني جديد على خط كتابة التاريخ، على غير ما ألفناه في القرون الماضية، أي العالم الذي يكتب عن وقائع الماضي بالضرورة، يحاول أن يشرحها ويفسرها، آخذا في الاعتبار الفترة الزمنية التي تفصله عن الواقعة وعصرها. أمّا في عصر مؤرخ اللحظة تجري الكتابة والتعليق على الواقعة والحدث في زمن الصحافي نفسه، أي تسجيل الحاضر. بينما الأمر اختلف تماما مع لحظة التعبير والتسجيل والبث الفوري، التي تتيحها تكنولوجية الاتصال الفائقة، بحيث لا تقتصر على أصحاب مهن واحتراف وصناعة، بقدر ما أن الجميع يستطيع أن يفعل ذلك وبالقدر الذي يحاصر الحدث في كل جوانبه وأبعاده وفي مشاهده المختلفة، إلى حد أنه يفصح عن الحقيقة كما هي. الحقيقة كما هي، هي العنوان الكبير الذي يريد أن يتواصل معه الحراك الشعبي في الجزائر، لأنه يملك الشهادة على ما وقع وما يجري، وما سيقع في كل تاريخ الحراك. ففي كل أسبوع ينزل الشعب يسجل آخر تطورات ومستجدات الوضع السياسي العام في الشوارع والساحات والميادين، وهو يعرف تماما ماذا وقع في الأسبوع الماضي، ويدرك ما يقوم به في هذا الأسبوع، ويتطلع إلى ما سيفعله في الأسبوع المقبل. لحظة منسجمة تماما مع التاريخ، وتواصل رائع مع آخر لحظاته.
وهكذا، فعندما يعايش الشعب لحظته التاريخية ويُبَلِّغها كما هي، يستطيع أن يتكفل بمصيره ليس كما ساد زمن ما بعد الاستعمار، حيث راحت الأنظمة تصنع شعوبا لها، لأنها تحتاجها فقط كركن من أركان الدولة القومية، أي إقليم، سلطة وشعب، لتُبَرِّر بها مقتضى الاعتراف الأممي بها. لكن اليوم، ومع آخر تقنيات التسجيل والبث الحقيقي للحدث في كافة جوانبه، يلتقي الشعب مع مصيره، ويلتحم معه بحيث لا يمكن فصم عراه. فاللحظة الأبدية، على ما تجري في ميادين وساحات المدن الجزائرية هي التي تعبر عن مبدأ «حق الشعوب في تقرير مصيرها» على ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة. في هذه اللحظة صرنا نفهم، في العمق، مدلول الشعب لأنه يرافق التاريخ في لحظة فورية تدفع إلى الاطمئنان على مساره السليم الذي يفضي إلى مصيره المنشود.
كاتب وأكاديمي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    على عنوان (الشعب والتاريخ معاً) أحب إضافة في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني عام 2019،

    لا يمكن صناعة لغة ثقافة دولة الحداثة حيث لا حدود، يمكن أن تتحكّم فيما داخلها،

    كما هو حال كيانات سايكس وبيكو، بداية بدولة الأقليات في لبنان أو الكيان الصهيوني بعد عام 1945؟ أو بعد ما قام به العراق في 2/8/1990 مع الكويت، أو ما قامت به أمريكا في العراق أو أفغانستان بعد 11/9/2001؟!

    قامت الدنيا في أوربا ضد حكومة بروناي في عام 2019، لإعلان نية البداية في تطبيق قانون الحدود، كما ورد معنى معانيه في لغة القرآن والإسلام.

    ولذلك أقول: اللهم بارك في خطوات حكومة بروناي،

    اللهم أرفع مستوى الغيرة لدى العرب والمسلمين في تقليدها على الأقل، إن لم يكن التسابق معها، في إعلاء مفهوم الأسرة الإنسانية السوية.

    من وجهة نظري باراك أوباما وقانونه في 2015 لتغيير معنى المعاني للأسرة في قاموس لغة الدولة،

    كان خلف إثارة المشكلة في محاربة مفهوم الأسرة الإنسانية (ثقافة النحن)،

    التي أساسها علاقة ما بين ثقافة الأنا (الرجل) وثقافة الآخر (المرأة)،

    حيث قال أن العلاقة تجوز بين الأنا والأنا، بغض النظر كانت الأنا هنا، رجل أو امرأة أو آلة (روبوت) بل وحتى حيوان.??

إشترك في قائمتنا البريدية