تتغيا هذه القراءة مقاربة بلاغة القصيدة المغربية الجديدة، من خلال ثلاثة نماذج، حاولت الاشتغال على المرجع بصور وأشكال مختلفة، وبالتالي فقد راهنت على كتابة شعرية جديدة توسع أفق النص وتساءل حدوده.
وهكذا ينتقل بنا محمد أحمد بنيس إلى عالم شعري يقلص من هامش المرجع، ويحفر في تخييل اللغة الشعرية، من خلال إعادة صياغة لغة السرد في صورة أنساق شعرية. هكذا تنزع تجربة أحمد محمد بنيس في مجموعته الشعرية ”ندم أسفل اللوحة” (دار النشر والتوزيع ـ القاهرة ـ 2012) إلى تشكيل لوحات شعرية تتفاعل مع عالم اليومي والتأمل الوجودي، وإعادة إنتاج لحظة الكتابة وتفكيكها، لكن يظل هاجس الشاعر هو البناء والبحث عن هوية القصيدة، ضمن اللامحدود من خلال استلهام لغة السرد، محاولا التمرد على اللغة المعيارية للشعرية المألوفة. هكذا يستعير محمد أحمد بنيس لغة ومعجم السرد، من أجل نقل مشاهد ولوحات تتأمل الوجود وتتفاعل مع مرجعيات السرد والتشكيل. ومن هنا يأتي الشعر لتمثل العالم، من خلال استحضار شخوص وعلامات أبطال التخييل الشعري، باعتبارها شبكة من العلامات التي ترتبط بالعلامة الأم، والرحم النصي المشبع برمزية خاصة، وهو اللوحة كما عاينا من خلال العنوان الذي يحضر باعتباره استعارة للحياة وآلامها وترسباتها في الذاكرة. إن اللوحة تتماهى مع القصيدة في مشهد يتجاذبه الواقع والتخييل. إن كينونة الشاعر تتركز في هذه الذاكرة الشعرية، حيث اللغة فضاء اللانهاية الذي ينحت ويبحث عن الإقامة ويعيش العزلة عن العالم:
عند نهاية الصفحة، وفي السطر الأخير من الرواية تجلس وحيدا كعادتك وأنت تعبر خيال أبطالك. وفي نص ”ندم أسفل اللوحة” ينكشف نسق اشتغال العلامة والرحم النصي اللوحة وتفاعلاتها الوجودية مع الحياة والذات: أجلس أسفل لوحة نزفت حتى النهاية بحثا عن ملصق لحياة سابقة. وهكذا تتداخل الهويات الأجناسية داخل خطاب الشعر، وهو الخطاب نفسه الذي يستعير لغة السرد والتشكيل، ويتمثل أنساقها البصرية والحسية في إدراك الوجود. فذات الشاعر تجد الكينونة الشعرية في اللوحة، لتحولها بعد ذلك إلى أنساق شعرية، فالسرد والتشكيل كلاهما يتحولان إلى أنساق تحكي بلغة الشعر، كان ذلك بسبب فرشاة مجهولة/علقت باللوحة ودفعت بالأحداث. وهكذا فإن الانزياح الشعري في هذه المجموعة لا يتوقف عند بلاغة الكلمة، بل تتأسس على كثافة القصيدة ومكون السرد باعتبارهما صورة مدركة عن عالم الذات. ففي قصيدة «رماد يناير»، يشتغل الشاعر على تكثيف لحظة الألم من خلال العلامة الرسالة التي تنزاح عن معناها الوجودي، لتؤسس لانهائية المعنى الوجودي المرتبط بألم الذات ونزيف الحياة:
كلما توغلتُ، بدت الصورة أكثر أرقا.
أتوقف قليلا،
أنظر في الاسم المكتوب،
لا أرى غير رسالتين
يقطر منهما
رمادٌ،
وبضعُ كَدَمات في الروح. ندم أسفل اللوحة
قصيدة حسن ملهبي تتقمص وقائع وأفعال الوجود، وكأن الكتابة تتحول إلى لعبة خرق أنساق بنية اللغة الشعرية، من أجل إعادة استعادتها وتمثلها من منظور الذات والوجود.
إن راهن الشعرية المغربية يستند إلى أنساق مرجعية متباينة، تحاول تجديد بنية اللغة الشعرية، وتوسيع آفاقها حتى تجد مساحة أوسع للتعبير عن الذات، وهذا ما نعثر عليه في تجربة غاية في الفرادة، من زاوية تمثل علاقة الذات بالوجود، وصياغة الرؤية للعالم. إن الأمر يتعلق بتجربة الشاعر حسن ملهبي. إن ذات الشاعر تتمثل الكينونة من خلال مقولة «النفي». فالقصيدة هنا علامة ترنو إلى تمثل الحداثة باعتبارها خرقا للمألوف، كما يتجلى من خلال لفظ «الخطيئة» (أنطولوجيا إلى الأبد ـ ديوان الشعر العربي ـ عبد القادر الجنابي). «منذ أن تذوق خطيئة الحداثة، صار يضع قناعا، ويهيم مستوحشا في أرض النثر».
في تجربة حسن ملهبي أسلوب يختلف عن شعريات سابقيه، فهو لا يتمثل المرجع باعتباره سابقا على الوجود، بل يلغيه ويسعى لإنتاج الجمال الضائع في هويات وخطابات تتجاور مع الشعر. فنجد مجموعة قصائد تعنون كل واحدة بلون، في تفاعل بين لغات الشعر والتشكيل والنثر. فالكتابة الشعرية هنا سابقة على المرجع، إنها فعل وجودي. ولذلك يبتدع الشاعر عالما شعريا ينهل من هويات أجناسية أخرى، لكن يخفيها كليا لصالح قوة التخييل والوظيفة الشعرية المهيمنة، رغم أن القصيدة تسائل حدودها وتحاول تجاوز معيارية النوع. إن الشاعر يراهن هنا على الوظيفة المهيمنة باعتبارها تمطيطا لعلاقة الذات بالعالم التي يشوبها الكثير من التوتر والقلق.
وهكذا يتميز عالم حسن ملهبي بالتوغل في الوقائع التراجيدية، وإعادة صياغتها بلغة شعرية. فشاعر الحداثة يلح على أن هوية القصيدة الشعرية تخضع لمنطق التحديد، انطلاقا من اللاتحديد ذاته، والبحث في اللامعنى. ولذلك يقتحم الشاعر عالم النثر ليستعير منه عالمه، ويوسع أفق التخييل، ويلقح هوية القصيدة بهويات ومرجعيات ثقافية، تعيد إنتاج النص. وتأسيسا على ذلك، تنهض شعرية نص حسن ملهبي على تمثل عالم الكوابيس والحلم، ما يضعنا أمام مكون آخر من مكونات الخطاب الشعري، وهو أنساق العجائبي. فالكأس على الطاولة تتحول إلى كأس دم وقد يتحول الدم إلى نبيذ. هكذا يبتعد الشاعر بالقصيدة من أنساق بلاغية، تميز بنية اللغة الشعرية إلى مكونات بلاغية، ترمي بنا في لاحدود الواقع، كما يوحي بذلك عنوان أحد النصوص ”واقع شعري” فنبقى بين الممكن والمحتمل، المحدود واللامحدود، ولذلك فنحن نعثر على الشعر، يبحث عن الجمال، من خلال استحضار التقابل بين أنساق السرد وأنساق الشعر والتركيز على القيمة المهيمنة، أي القلق والتوتر مع العالم، كما يؤشر إلى ذلك لاوعي النص.
إن قصيدة حسن ملهبي تتقمص وقائع وأفعال الوجود، وكأن الكتابة تتحول إلى لعبة خرق أنساق بنية اللغة الشعرية، من أجل إعادة استعادتها وتمثلها من منظور الذات والوجود. وتلك هي الطقوس التي يبحث عنها الشاعر، وتتمركز حول طقس الكتابة باعتباره قلقا وحداثة وآلية من آليات سبر لاوعي الذات.
وإذا كان حسن ملهبي يبني قصيدته على أساس النَّفي وتَقليص مساحة هامش المرجع إلى أبعد الحدود، بما يسمح ببناء شعرية تخييل القصيدة العابرة للحدود، فإن شعرية ماكلوهان، ونقصد هنا الشاعر حسن الوزاني، تتشكل من خلال بناء قرائن المرجع.
وهكذا نلفي في ديوان ”أحلام ماكلوهان ”(دار العين القاهرة ـ 2016) لحسن الوزاني تشريح لمفهوم مركزي داخل القصيدة، وهو الأنا، باعتبارها كينونة تسكن اللغة، وتتشكل من استعارات الوجود. إن اللغة الشعرية تؤسس انزياحاتها من خلال توسيع فضاءات التخييل، وخرق الحدود وخلخلة العلاقة مع العالم، وكذلك إعادة مساءلة التاريخ والوجود والذوات. ولذلك نجد ماكلوهان العلامة المرجعية والنوية الدلالية، منخرط في البحث عن الذات والهوية داخل هذه الأنا، يشاكس من خلال هذه اللغة واستعاراتها. ولعل هذا البحث يتحقق من خلال وسيط رمزي هو العلامة. ف”الأنا»هنا مقولة شعرية، تروم تشكيل خطاب الجنس الأدبي وتأصيل مفهوم قصيدة النثر من خلال أسلوب خاص في الكتابة، يروم تدمير الحدود داخل عالم لم يعد يعترف بهذه الحدود. وبالتالي سنجد أن أحد مظاهر جماليات هذه الشعرية، هو ذلك االتوتر بين الدال والمدلول، بين الشكل والمعنى، الكامن في أسرار اللغة من جهة، ومن جهة أخرى الغنائية الجديدة التي تستعيد صوت الذات بصور مختلفة.
ويمكن القول إننا أمام غنائية جديدة في الكتابة الشعرية عند حسن الوزاني، فالأنا لم تعد منغلقة على الذات، بل نجدها في تأمل مستمر للعالم، منفتحة على فضاءات اللانهائي والمجهول:
أنا أقصر قليلا من شلالات نياغرا/ ولذلك لا تبلغ يدي الشمس.
أنا نجي الصحراء /أعرف كيف أخنعها
أنا /الأعمى. أمضي إلى الجنة
حضور «الأنا” موسوم بهاجس تشكيل هوية شعرية، تحاول بناء عالمها ونسج علاقة اتصال بعالم يخترق ويدمر الحدود بين العقلاني واللاعقلاني، بين الوعي واللاوعي، الممكن والوجود.
إن حضور فضاءات نيغارا والمطر (الماء) والشمس، الصحراء، والأرض (التراب) السماء والهواء، والجنة تشكل نويات دلالية تشكل الانزياح؛ وبالتالي فهي مؤشر على ”الأنا” الإنسان و«أنا الشاعر” الكونية، من خلال العناصر الوجودية الأربعة: الماء، التراب، الهواء، النار. وهي فضاءات مرجعية تحاور من خلالها الذات اللانهائي الذي تجد فيه كينونتها وجوهر وجودها. و«هذا التشتت والاتساع.. ووسط الحشد المتعدد للأشكال يحس الشاعر بتضاعف شخصيته وينتشي بالمشاركة الكونية». فالشعر هنا في شعرية حسن الوزاني سبر للكينونة، ومساءلة لحدودها وانفتاح العلامة على أنساقها.
إن الهوية الكونية التي تَتَمثَّل العالم وتَسبُر أغواره، وتعيد ترتيب رموزه، تتجلى هنا من خلال العلامة المرجعية ماكلوهان. وهو ما يمكن أن نستشفه من خلال بنية العنوان ذات النسق المرجعي، ماكلوهان صاحب نظرية في مجال الإعلام والاتصال، تقوم على إلغاء الحدود. فنحن هنا بصدد عالم تخييلي يحفر في ”الأنا البعيدة» وهي تتماهي داخل أنا المرجع، التي تجوس مناطق الذاكرة، والأعماق الداخلية للذات الشاعر، والعلائق التي تنسجها مع العالم وفضاءات اللانهائي. ولعل أهم ما يميز هذه العلاقة بين الأنا والعالم هو التنافر والمفارقة ومحاولة بناء حلم مد جسور جديدة للاتصال بالعالم. وإذن فماكلوهان العلامة المشبعة برمزية المرجع، تنطوي على طرائق اشتغال طبقات كل من الدال والمدلول، ومرجع الذات – الأنا الذي يبحث عن لغة كونية. فهو يجسد ثنائيات الوجود الموسومة بالتناقض والمفارقة، وهي الخصائص نفسها التي تكشف الانسجام الداخلي للخطاب وشعرية قصيدة النثر في تجربة حسن الوزاني. وهكذا تَتَمظهر القصيدة باعتبارها الكينونة التي تقيم في اللغة ويعيد صوغ الكائنات والأمكنة.
أقيم ككائن أليف بقرية الكون
حيث الأشياء صديقة لأضدادها
إن التنافر والبنية الضدية التي تقوم عليها ”العبارة” في شعرية الوزاني، ليست مجرد بلاغة تزيينيه وبناء تخييلي مجرد واعتباطي، بل تنبع من سيكولوجية الذات، كما تظهر من خلال أثر الأنا وطبقات العلامة التي تحيل على العالم الخارجي، وما يطبعه من تناقض عالم الموجودات الذي تعكسه الحروب والانكسارات التي تعيشها الأنا. إن المفارقة هنا تنهض بوظيفة تحقيق الانسجام الداخلي للخطاب، وبالتالي بناء جماليات القصيدة. إن الانفصال والاتصال الذي يسم طبقات العلامة هو الذي ينتج الانكسارات الإنسانية التي تحاول القصيدة أن تقيس درجتها ”على سلم ريختر”:
ماذا لو هددت الجبال
كان سيطل من أعاليها ثوار أضاعوا الطريق.
ماذا لو هددت الحقيقة كانت ستسقط من ثناياها أكاذيب كثيرة..
إنه منظور «الأنا ” الشعرية ذاتها والموسوم برؤية خاصة للعالم وما يميزه من مفارقة وتنافر وتناقض، كما يتجلى من خلال ثنائية: الواقعي/ التخييلي. وهذا ما جعل هذه الأنا تعيش بأحلام ناقصة ومزيفة كما يظهر من خلال مجاز ”أحلام باهتة” في المقطع التالي:
ولذلك كانت أحلامي
وحين أفيق يطالبون بالحلم
بالحلم الذاتي
إن حضور «الأنا” موسوم بهاجس تشكيل هوية شعرية، تحاول بناء عالمها ونسج علاقة اتصال بعالم يخترق ويدمر الحدود بين العقلاني واللاعقلاني، بين الوعي واللاوعي، الممكن والوجود. ومن أجل نسج علاقات الاتصال الكونية كما يحلم بها ماكلوهان، تتوسل الأنا بلغة تخييل شفافة تستقي من عالم الطبيعة جوهر كينونتها، لتعيد صياغة بلاغتها الخاصة، القائمة على صورة البيان والوضوح واستبعاد البلاغة التي تتقنع خلفها الذات والأنا وتمحو الهوية، وتعيق الاتصال الشعري بالعالم.
٭ كاتب مغربي