■ عانى الأدب، والشعر تحديدا، في العصر المملوكي والعثماني من حجاب مزدوج؛ ففضلا عن شحّ أو ظلم النقد الموازي لكتابات أدباء هذا العصر، درج مستشرقون وكتّابٌ من عصرنا الحديث على وصم هذا الأدب بتهمة «الجمود على القرائح» التي أطلقها جرجي زيدان في «تاريخ آداب اللغة العربية»، واتّبعوه فيها، من غير أن يتحرّوا إن كان الشعر العربي قد انحطَّ بالفعل إلى مرتبةٍ غير مسبوقة في تاريخه من الإسفاف والتقليد عديم الجدوى. لكن ظهر في ما بعد جيلٌ من الباحثين العارفين أنصفه وردّ الاعتبار له، من أمثال محمد سيد كيلاني في «الأدب المصري في ظل الحكم العثماني» (1965)، وبكري شيخ أمين في «مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني» (1972)، وعمر موسى باشا في «تاريخ الأدب العربي في العصر العثماني» (1989)، تمثيلا لا حصرا.
فإذا كان العصر الموما إليه عصر تشرذم واقتتال وصراع مرير على السلطة، إلّا أنَّه لم يكن يخلو من إضاءات مشرقة أبدعها الفكر العربي والإسلامي الموسوعي، إذ تميّز بظهور «الموسوعات الكبرى» في الأدب، اللغة، والتصوف، التاريخ، وعلوم الحديث والفقه والتفسير وغيرها. وكثيرٌ من العلماء الذين نقرأ ونُقدّر إنتاجهم الفكري ظهروا في هذا العصر، من أمثال ابن خلدون، وابن منظور، والقفطي، النويري، وابن خلكان، وابن كثير، والقلقشندي، والزركشي، والأبشيهي، والقزويني، والزبيدي، والبوصيري، وابن حجر العسقلاني، وابن هشام، وابن عقيل، ونصير الدين الطوسي، وصفي الدين الحِلّي، ولسان الدين بن الخطيب، إلخ.
ولم يعدم المجال الشعري بدوره بعضا من تلك الإشراقات، فقد انعطف شعراء العصر بالقصيدة العربية التي كانت قد بلغَتْ ذروة تطوُّر جماليّاتها إبّان العصر العباسي الثاني، إلى ضفاف أخرى، أكثر من أنَّهم انحطّوا بها أو أسفُّوا القول فيها، بحيث استحدثوا فنونا شعرية جديدة مُعلنة عن «مُتردّم أخرى» قد غلب عليها العمران. فقد ظهر شِعْرٌ عُنِي فيه بالبديع والتطريز والتدبيج والأحاجي والألغاز والألاعيب الشكلية، فكان بحقٍّ عنوانا لمرحلة أخرى حلّ فيها فنُّ التوشية والرؤية محلّ فنِّ السماع والإطراب، أو التشكيل البصري محلّ التشكيل الصوتي، وساد كثيرا من أشكال الشعر العربي في العصرين المملوكي والعثماني. ومن المُجْحف أن نذهب مع من «اعتبر اللعب بالأشكال الفنية سمة لعصور الانحطاط» (محمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي). وأنْ ندّعي أنّ هذه الأشكال أو الفنون الشعرية كانت خالية من روح الابتكار؛ بل هي بالعكس كشفت ـ بنسب متفاوتة القيمة ـ عن قدرة مُدهشة على تشكيل إيقاع الشعر وتجسيمه بصريّا، كأنّ الأذن أَخْلَت المجال لرؤية العين وفتنتها.
يرى والتر أونج أنّه «من دون الكتابة لا يستطيع العقل الكتابي أن يفكر على النحو الذي يفعله، ليس فقط عندما يمارس الكتابة، بل حتى في حالة إنشائه أفكاره في شكل شفهي.
الفنون الشعرية البصرية: من الأذن إلى العين
تكشف الفنون الشعريّة البصريّة عن جيلٍ جديدٍ من الشعراء جمعوا بين ملكة الشعر، وتوقُّد الخيال، وخبرةٍ بأفانين اللغة والبلاغة والتشكيل والحساب؛ إذ انعطفت بالشكل التقليدي للقصيدة العربية، في الغنائي والشفوي، الذي كان يُتغنّى به ويُنْشد إنشادا بحكم انغلاقه على موسيقى شعرية عالية ومدهشة، إلى مَجالٍ آخر، وبُعْدٍ آخر أكثر ابتكارا، طال الوعي الإبداعي والكتابي نفسه. لقد انتقلت الفنون بشكل القصيدة إلى اشتغالٍ فضائيٍّ جديد، وسيميولوجيا شكل جديدة، بسبب الوعي بقيمة الكتابيّ ومادّيته واشتراطاته، متوافقا مع روح العصر (الإبستيمي، بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو) الذي شاع فيه الاهتمام بأشكال الزخرفة والفسيفساء والنحت والعمارة داخل صرح الفنّ الإسلامي، وعبّر عن رقّة وشفافية مثيرتين للإعجاب. ولكم تحوّلت مقطوعاتٌ وأبياتٌ شعرية جرى بها المثل في الحبّ والوجد الصوفي إلى لوحاتٍ وأيقوناتٍ بصرية- علاميّة لغرض الزخرفة والنقش على سطوح المساجد، أو في داخلها، أو المنابر، أو في القصور وساحاتها وما إلى ذلك، بحيث تناسب صياغتها الفنّية السيمترية غايات الزخرفة والتزيين. فنجد على سبيل المثال، مقطوعة كاملة خالية تماما من النقاط، أو أبياتا كل حروفها مهملة، ونجد الأخرى تتكرر فيها الراء في كل كلمة من كلماتها، وثالثة تبدأ كل كلماتها بحرف معين، بحيث تكون قابلة للرسم بشكل بديع.
كان التحوُّل من الاعتماد على الشفاهية (الأذن) إلى الاعتماد على الرؤية (العين) في منظور الشكل الشعري، تدشينا لشكل جديد من الوعي الإنساني في رؤيته للعمل الفنّي بخاصّة، وللعالم بعامّة، أو كما يرى والتر أونج أنّه «من دون الكتابة لا يستطيع العقل الكتابي أن يفكر على النحو الذي يفعله، ليس فقط عندما يمارس الكتابة، بل حتى في حالة إنشائه أفكاره في شكل شفهي. لقد غيرت الكتابة شكل الوعي الإنساني، أكثر من أي اختراع آخر» (والتر ج. أونج، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين، 1994). وأشهر هذه الفنون البصرية التي تنقلها لنا كتب الشعر والأدب والبلاغة، وأهمّها بالدرجة والترتيب، هي: المدبّجة: «ابتداع معجز تدبيجه فاق حدَّ الشعر»، إذ هي تركيبٌ شعريٌّ، من مطلق ولزومي، كثيرا ما يمتزج بالنثر، تتناسج فيه كلمات القصائد وتتقاطع وتتداخل وتتواشج وتخرج من بعضها لتتشكل من الصورة الواحدة عدة قصائد. وقد ابتدعها عبد المنعم بن عمر بن حسان الغساني الجلياني الأندلسي (ت603هـ) في عمله المعروف: «ديوان التدبيج» (تحقيق كمال أبو ديب ودلال بخش، دار الساقي ودار أوركس للنشرـ الأحاجي والألغاز: لم يسلم منها شاعر، ولم يخل منها ديوان، وكانت عنوانا على قدرة الشاعر على اختراع صورة لفظية تتوارى المعاني وراءها، وهي وسيلة من وسائل التسلية في المجالس، وربما عمد صاحبها إلى مكاتبة إخوانه بها، وطلب منهم أن يحلّوها. وتذهب الرسالة الحاملة للقصيدة اللغزية من بلد إلى بلد، وغالبا ما يعود الجواب بحل اللغز في قالب شعري، ويكون متبعا بلغز آخر يطالب صاحبه بحلّه، وهكذا. كان من أعلام هذا اللون صفي الدين الحلّي والشَّرف الأنصاري وابن عنين (ت630هـ) ومحيي الدين بن عبد الظاهر (ت692هـ) وإبراهيم بن عبد الله القبراطي (ت781هـ) وابن حجة الحموي (ت837هـ). ـ الأحاجي والألغاز: لم يسلم منها شاعر، ولم يخل منها ديوان، وكانت عنوانا على قدرة الشاعر على اختراع صورة لفظية تتوارى المعاني وراءها، وهي وسيلة من وسائل التسلية في المجالس، وربما عمد صاحبها إلى مكاتبة إخوانه بها، وطلب منهم أن يحلّوها. وتذهب الرسالة الحاملة للقصيدة اللغزية من بلد إلى بلد، وغالبا ما يعود الجواب بحل اللغز في قالب شعري، ويكون متبعا بلغز آخر يطالب صاحبه بحلّه، وهكذا. كان من أعلام هذا اللون صفي الدين الحلّي والشَّرف الأنصاري وابن عنين (ت630هـ) ومحيي الدين بن عبد الظاهر (ت692هـ) وإبراهيم بن عبد الله القبراطي (ت781هـ) وابن حجة الحموي (ت837هـ).، بيروت، 2009). ففي ديوانه يرسم الجلياني في لوحات مذهلة: فهنا شجرة وطفاء، وهنا سجَّادة باهرة، وهنا فراشة مرفرفة، وهنا صدَفة أسرار ودرر لا تضاهى، وهنا تشكيلات هندسية يزوغ لها البصر، تتعدّد فيها ألوان الكلمات والأغصان والأوراق والأشكال، لتولِّد منظرا رائعا للعين كما هي مروِّعة للفكر. ووراء كلِّ ذلك يحتجب تصوُّر باطنيٌّ صوفيٌّ يكتنه العالم ببصيرة لا يملكها سواه، وبراعة شعرية وثراء لغة وجمال صور لا يملكها إلا الذين يختصُّهم الله بما يشاء لهم من امتياز، ومن ثمّة، فالديوان كان بحقّ عملا إبداعيّا «لم يسبق إلى مثله سابق ولا يلحق مدى الدهر شأوَه لاحق»، كما يقول الجلياني نفسه.
التأريخ الشعري هو فنَّ التاريخ على حساب الجمل، وما دَلَّ على ابتداء زمن بطريق جمل حروف معدودة، أو ما في معناها.
الشعر الهندسي: وهو نوع من الشعر يأخذ شكل الدائرة، والمثلث، والمربع، والمخمّس، والمَعِين، وغيرها من الأشكال الهندسيّة. فإذا مثّلنا بالدائرة فهي لها مركز، وفي هذا المركز حرف من الحروف، ومن هذا الحرف يبتدئ البيت، وإلى هذا الحرف ينتهي البيت. والدّوائر منها : الدائرة المركّبة، والدائرة البسيطة .وشعر الدّائرة المركّبة يتطلّب رسم دائرة أصلية كبرى، وحولها على المحيط دوائر صغيرة، وعلى حواف هذه الدّائرة الكبيرة والصغيرة يمرُّ البيت ابتداء وانتهاء، ليعود من جديد منطلقا من المركز إلى الدّائرة الصغيرة الثانية، ثمّ ينتهي إلى الكبيرة في مركزها .ويختلف عدد الأبيات باختلاف عدد الدّوائر، فكلّما كثرت الدّوائر طالت القصيدة، والعكس بالعكس.
التطريز: وفيه يجعل الشاعر الحروف أوائل الأبيات تشكل اسما معينا. فإذا أراد الشاعر تطريز اسم «أحمد»، جعل الحرف الأول من البيت الأول ألفا، وجعل الحرف الأول من الثاني حاء، و هكذا إلى آخر المقطوعة. وللمعتمد بن عباد قطعةٌ مُطرّزةٌ في «اعتماد» زوجته، إذ يقول فيها:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صمـيم الفــؤادِ
عليكِ سلام ٌبقدر الشجونِ
ودمع الشؤون وقدر السهـادِ
تملّكْتِ منِّيَ صعب المـرامِ
وصادفْتِ ودّي سهل القيـادِ
مراديَ لُقْياكِ في كلِّ حـينٍ
فيا ليـت أنّي أُعْطـى مـرادي
أقيمي على العهد ما بيننـا
ولا تستحيلـي لطـول البعـادِ
دسسْتُ اسمكِ الحلو في طيِّه
وألّفتُ فيهِ حروف «اعتـمـاد»
التشجير :وهو تفريع كلمة من معنى كلمة أخرى، وهكذا دواليك في استطراد وتسلسل. فهو نَظْمٌ يجعل في تفرّعه على أمثال الشجرة، وسمّي مُشجّرا لاشتجار بعض كلماته ببعض، أي تداخلها. فالشاعر ينظم البيت الذي هو جذع القصيدة، ثمّ يفرّع على كلّ كلمة منه تتمّة له من القافية نفسها التي نظم بها، وهكذا من جهتيه اليمنى واليسرى، حتّى يخرج منه مثل الشجرة .وإنّما يشترط فيه أن تكون القطع المكملة كلّها من بحر البيت الذي هو جذع القصيدة، وأن تكون القوافي على رويّ قافيته أيضا.
التأريخ الشعري :وهو فنَّ التاريخ على حساب الجمل، وما دَلَّ على ابتداء زمن بطريق جمل حروف معدودة، أو ما في معناها .ويعتمد هذه الفنّ على حساب التاريخ تبعا لترتيب الحروف الهجائيّة العربيّة، وهي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ .فكلّ حرف له قيمة عدديّة. لكن هناك شروط يجب توافرها في هذا الفنّ، ومنها أن يتقدّم على ألفاظه كلمة «أرّخ» أو «أرّخوا»، أو ما يدلّ على التاريخ. ومنها أيضا ألا يكون في بيتين، بل في بيت واحد، ويستحسن أن يقع في عجز البيت أو في قسم من العجز .ومنها أنّ الحروف تحسب على صورتها من دون مراعاة لفظها.
ذات القوافي :وهو أن يبني الشاعر بيته الشعري على وزنين وقافيتين، فإذا أسقط جزءا أو جزأين صار ذلك البيت من وزن آخر غير الأول. وتُسمّى التشريع والتوأم بتعبير ابن الحموي وابن أبي الإصبع على التوالي. ومثل ذلك قول الحريري:
يــا خـاطــب الـدّنـيـا الـدنـيّـة إنّـهــا
شَـــرَك الـرّدى وقــرارة الأكـدارِ
دارٌ متى ما أضحكتْ في يومها
أبـكــتْ غـــدا تـبّــا لـهــا مــــن دارِ
الطّرد والعكس :وهو أن ينظم الشاعر قصيدة، فتقرأ على وجوه متعدّدة من دون أن تكون وراء ذلك معانٍ جديدة في أغلب الأحيان. ومن ذلك ما ابتدعه صفي الدين الحلّي في هذه الأبيات التي تُقرأ طولا فتؤدّي معنى، وتقرأ عرضا فتؤدّي المعنى نفسه:
ليـت شعـري، لــك عِـلْـمٌ من سقامي، يا شفائي
لــك عـلـْمٌ، مــن زَفـيــري
ونــُحــولــي وضــنــائـــي
مـن سقامـي، ونحـولـي داونــي إذْ أنــت دائــي
يـا شـفائي، وضنـائـي، أنـت دائــــي ودوائــــي
أو هذه الأبيات التي تُقرأ طَرْدا وعكسا، فيبقى مبناها من دون تغيير، ويمكن قراءة كل بيت من اليمين إلى الشمال، والعكس بالعكس، لأن ترتيب الحروف هو نفسه:
قَبَسٌ يدعو سناهُ إنْ جَفا
فَجناهُ أنْسُ وعدٍ يسبقُ
قرّ في إلْف نــداها قلبـُهُ
بِلُقاها دَنــفٌ لا يــفـرقُ
وهو أقسام، منها: المخلّعات، وما لا يستحيل بالانعكاس، والطرد مدح والعكس هجاء، مثل هذين البيتين الذين هما في المدح:
حلموا فما ساءَتْ لهُمْ شِيَمٌ
سمحوا فما شحّتْ لهم مِنَنُ
سلموا فما زلـّـتْ لهم قدَمٌ
رشدوا فما ضلّتْ لـهم سُنَنُ
فيصيران هجاء بعكس ترتيب كلماتها:
مننٌ لهم شحّتْ فما سمحوا
شيم لهم ساءت فما حلموا
سننٌ لهم ضلّتْ فما رشدوا
قدمٌ لهم زلّتْ فما سلموا
محبوك الطّرفين: وهو نوع من المنظوم تكون كلّ أبيات القصيدة أو القطعة مبتدَأة ومختتمة بحرف واحد من حروف المعجم. وكان ابن دريد قد نظم قطعا مربعة على عدد حروف الحروف لم يلتزم فيها مجرى واحدا، بل جعل كلّ قطعة منها مستقلّة عن سائرها بالوزن، كما هي مستقلّة في الرويّ، وأوّلها قوله في حرف الألف:
أَبقَيـتَ لـي سَقَـمـا يُـمـازِجُ عَبـْرَتـي
مَـــنْ ذا يـلــذُّ مَـعَ الـسَـقــامِ بَــقــاءَ
أَشمَتَّ بي الأَعداءَ حينَ هَجَرتَني
حـاشــاكَ مِــمّــا يُـشـمِــتُ الأَعــــداءَ
أَبـكَـيـتَـنـي حَين ظَـنَـنـتَ بِـأَنّـني
سَيصيـرُ عُمـري مــا حَيـيـتُ بُـكـاءَ
أُخفي وَأُعـلـنُ بِـاِضـطِـرارٍ أنَّـني لا أَسـتَـطـيــعُ لِــمـــا أُجِـــــنُّ خَــفـــاءَ مع ذلك، كما في كلّ عصر، لا ننكر أنّ هناك غثّا غير قليل قد ساد في شعر هذه العصور، وفي فنونها التي لم تكن تطاوع أيّ شاعر إلا إذا كانت لديه ملكة شعريّة، وصاحب خيال متوقّد يتفيّأ ظلال الشعر واللغة والبلاغة، فيبدع فيها بمقدار ما (للاطلاع على نماذج من الأشكال الهندسية والدوائر الشعرية في التراث العربي، أنظر: بكري شيخ أمين، مطالعات في الشعر المملوكي والعثماني. ومحمد نجيب التلاوي، القصيدة التشكيلية في الشعر العربي).
أحد مظاهر الحداثة الشعرية في أوروبا قام على التصوُّر المادّي- البصري للكتابة كما نلمس ذلك في خَطّيات الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير
ابتداعٌ لا اتّباع
من المؤكّد أن هذه الأشكال الشعرية التي استحدثت خلال تلك العصور من تاريخ الشعر العربي، ولا سيما العصرين المملوكي والعثماني، تكشف لنا أن الشعر البصري، أو المُجسّم، إنّما ابتدعه الشعراء العرب قبل الأوروبيّين بمئات السنين. ومن المعروف أنّ أحد مظاهر الحداثة الشعرية في أوروبا قام على التصوُّر المادّي- البصري للكتابة كما نلمس ذلك في خَطّيات Calligrammes الشاعر الفرنسي غيوم أبولينير الذي استبدل بالنقاط والفواصل إشارات رياضية وموسيقية؛ كما أولى الشاعر ستيفان مالارميه أهمية قصوى في التجسيد العلامي- البصري للصفحة الشعرية كما الحال في قصيدته ذائعة الصيت «ضربة نرد». وفي تجارب بعض من شعراء السيريالية نراهم جسّدوا هذا البعد في تصوُّرهم لآليّة الكتابة، أو في محاولات الشاعر السويسري أوجين غومرينجر الذي يمزج في نصوص من ديوانه «Constellation» بين عناصر بصرية وصوتية وأيقونية، فتتحوّل الكلمات إلى مادة ذات قيمة تشكيلية. وفي السويد، أصدر ويفيند فالستروم مجموعة من القصائد المجسّمة وبيانا (من أجل الشعر المجسم) عام 1953. وفي متحف الفنّ الحديث في مدينة ساو باولو، عام 1956، نظّم شعراء برازيليون من أمثال الأخوين أوغستو وهارولدو دو كامبوس، وديسيو بيغناتاري ورونالدو أزيريدو، معرضا للفنّ المجسم، قبل أن يصدروا بعد نحو سنتين بيانا في مجلة «Noigandres». ونحو عامي 1962-1963 ظهرت أولى أعمال الشعر البصري، التي تأثّرت بالتيار المستقبلي في عدد كبير من البلدان.
ووقع أصحاب الاتجاه التجسيمي- البصري في الشعر خاصة، والفنّ عامة، تحت تأثير المدرستين الدادائية والمستقبلية، ويمكن اعتبار الشعراء من أمثال: مالارميه، وأبولينير، وباوند، وغومينغز وجويس رُوّاد هذا الاتجاه.
واليوم، نجد أنّ مصطلح «الشعر المجسم» يُستعمل للدلالة على قطاع رحب ومتنوّع من الإبداعات والتجارات الشعرية، ومن أشكال الشعر التجريبي، حتى داخل الشعر العربي المعاصر نفسه، وبالتالي من الصعب أن نعطي له تعريفا وحيدا ودقيقا، بيد أن (الأَتْمتة) قد أخذت تحدُّ منه بشكل غير مسبوق.
٭ شاعر مغربي