يصبح الشاعر شاعرا عندما يتمكن من التصوير، فبعضهم يملك مشاعرَ دفاقة إلا أن هذه المشاعر الفياضة لا تجعلهم شعراء دون المقدرة التصويرية البارعة، وهذا النوع ممن بلا قدرةٍ تعبيرية صياغية، وتكوين صور حيوية مذهلة سائد اليوم، وأفضَى إلى أن يزخرَ الوسط الأدبي بنصوصٍ ركيكةٍ مترهلة، تخلو من الأسلوب الشعري، البهاء الحقيقي والصور الشارحة للمعنى.
العاطفة الجياشة لا تكفي وحدها في كتابةِ القصيدة وتحتاج إلى مكملاتٍ ثانوية أهم بالتأكيد، من حسن السبك وثقل المعنى إلى صحةِ التأليف وقوة الخيال، كما قالَ أحمد أمين مثلا آنذاك: «غاية الأمر أن بعض الشعراء يتفوق في أحد الركنين ويقصر في الآخر، بل لا بد لعدهِ بليغا أن يكون جيدا في أحدهما غير ساقط في الآخر».
وجدت مقطعا يدعي كاتبه بأنه شِعرٌ وهو شاعرٌ يقول فيهِ: «لأنكَ لَمْ تبصر الصبح/ حينَ يسيل على صوتِ فيروز/ ولَمْ تره وهو يفرك عينيهِ في لذةٍ..». هل الصبح مَن يسيل على صوتِ فيروز، أم صوت فيروز مَن يسيل يوميا على صباحاتِنا؟ من الأصوب يا ترى؟ وهل يجب تحريك الجوامد الثوابت وتجميد المتحركات؟
إن كانت هذهِ الجملة مجازا خياليا فهي شائنةٌ وغير محببة أو بهية أصلا، أي صواب صياغتها وعدم صوابه سيان عندَ النقد الأدبي الجمالي أو الرومانتيكي، فَفي كلا الحالتين بلا جماليةٍ، أو سحرٍ عالٍ، فضلا عن كونِها مكررة مألوفة للعامةِ من القراء، تفتقر إلى الحلاوةِ والابتكار الشعري، يسود مثلها الغزير في الآونةِ الأخيرة، قد تحوي شبيهاتها من الجملِ على نسبةٍ من العاطفةِ، إلا أنها تتطلب صياغة متجددة وتصويرا باهرا، الشعور أو الانفعال يستدعي العديد من الشؤون الرشيقة لإتمامِ القصيدة المستندة إليه.
لإيصالِ المسألة أكثر آخذ مثالا ثانيا لا يمت إلى الشعر بصلة، ورد فيهِ الآتي:»إن أأمن طريقة لفرض السلطة مسمى بلا اعتبار/في اللحظة التي تعثّر الشارع/ فيها على السير تحول إلى شاعر». قطعةٌ ساذجةٌ مستفزة تفتقد الصورةَ المكثفة والمعنى العميق اللافت، مجردةٌ من العاطفةِ، الوضوح وجرس الحروف والقدرة البديعية في الكتابةِ، تنتمي إلى الطلاسم، البوح الخَاوِي والكتابة من أجلِ الانتشار ونيل لقب شاعر فقط، قبلَ الاهتمام بالثقافةِ الفخمة، الاطلاع الكثيف والتجارب الفعلية، وغير هذهِ النماذج الكثير مما طغى على الشعر الغنائي الوجداني الصادق المدهش وغرقَ في عاديتهِ بلا ريب، لَعَمري تناولت ملامح من الأشعارِ الرديئة كي تكونَ أنموذجا يحتمل النقد الجلي، ولا أجرَح أو أفضح كاتبها على الإطلاق، لست بصددِ هكذا تصرفات غير راقية، ولا جدوى منها، تنزل الأديب من مكانِه البراق ومنزلتهِ الكتابية الرفيعة.
عبثا أتحدث عن هذا الموضوع، وعن أولئكَ الذين ولدوا دون ذوق أو حاسة شِعرية، لطالما هرولَ عديدهم إلى كتابةِ الشعر قبلَ الذواق الصافي والحساس شِعريا على الدوام، نافسوه في ما بعد متبجحين، يعتقدونَ أنهم على سَدادةٍ وليسوا على خطأ أبدا، فهم لا يرونَ ولا يسمعونَ أو بالأحرى لا يقرؤونَ حتى، ثم يدخلونَ الميدان الأدبي بكل ثقةٍ وجرأة، هناك ـ طبعا – مَن صفقَ لهم ومنحهم مراتبَ باسقة ورواجا رهيبا. هؤلاء أصنافهم وأشباههم المتشوهون الجاهلون بلا جدال، يجتازونَ الشعراء الماهرين، ذوي الشعر المنسجم بعيونٍ معصوبة ويهملونَ ضفتهم، سعيا لهراء المزيفين المتنكرين من السفهاء.
الأدب سواء أكانَ نثرا أو شِعرا هو مرآةٌ وإن بدا سيئا مترديا في الزمن الحديث تحديدا؛ ذلكَ لأنه عكسَ سطحية كتابه المزعومين وانعدام معرفتهم وقراءتهم الدؤوبة إلى جانبِ قلة ذخيرتهم المتخذة لعملِهم التأليفي وبعبارةٍ أدق صورَ عدم تعاملهم الجدي مع خطورةِ التنظير، التدوين وعملية الإبداع بأشملِها، يتخلص الشعر الرديء من صفةِ الرداءة، ويعود نقيا عندما يتراجع عديمو الموهبة والعلم عن الشعرِ بأكملهِ، حينها يتحرر الشعر ويعلن انتصاره وخلوده بزهوٍ وضياء، ويستمر على أيدٍ واعية انتقائية، مدركة مقتضيات الشعر، حقوله ومساحيقه البلاغية وعوالمه عموما.
يرى الناقد الأدبي أ. أ. ريتشاردز، أن موضوع رداءة الشعر من الموضوعات التي لَمْ تلقَ من الدراسات النظرية ما يليق ويكون جديرا بِها؛ يرجع هذا إلى صعوبةِ التفكير واللبس في الشعر واختلاط الأمور ببعضها بعضا مؤخرا، لاسيما وهو يؤكد أن القصيدة عبارة عن قطعةٍ من تجربةِ الشاعر، ولا بد من قدرتهِ على استرجاع تجاربه الماضية وتطابقها مع تجاربَ الآخرين – طالما يود توصيلها لهم- والتحلي بقسطٍ وفيرٍ غير عادي من اليقظة، مصير الشعر الفشل والرداءة المعِيبة، بمجردِ فقدان الشاعر لهذهِ المميزات وعلى وجهِ الخصوص الذاكرة. إذ الشعر الرديء الناقص ناجم عن أدواتٍ نسيجية للشِعر عاطلة هزيلة من ضمنِها تجربة عديمة القيمة، غير مؤثرة يغدو الشعر فيها هشا، فاقدا للتوافقِ بينَ الشكل والمضمون أيضا، إذ على الشاعر أن يجتهدَ كما ينشد اجتهادا من القارئ، فالقارئ وَفق اجتهاده ومِرانه يجتهد ويقرأ له بموَاظَبَةٍ، لا مناصَ من التَوَازَن، على قدرِ الصدق، اللذة، الإعجاب والانتظام ونقل الحالة الشعورية بدقةٍ دونِ صناعة فجة – وهذهِ الأخيرة هي الأهم – يأتي الحب والبقاء من قبلِ القراء الحاذقين، الذينَ سوف يلجون أبواب شِعره ويتذوقونَ قصائده دوما بحكمِ اسْتِهوائِهِ لهم لا شك.
قد آمنت كما آمن أ. أ. ريتشاردز بمقولةِ الناقد ماثيو أرنولد، الذي سبقنا إليها منذ زمنٍ عتيقٍ: «الشعر يقوم على المعنى، والمعنى بالنسبةِ إليهِ هو كل شيء».
يتحقق المعنى ويكتمل العمل الشعري بتحقق أقوال وتنبيهات أحمد أمين وريتشاردز، أشرت إليهما في هذهِ المقالة الموجزة عن متاعبَ الشعر والهوة الشاسعة بينَ تنظيراتهِ والتطبيق، التنفيذ المؤدي إلى أشعارٍ فاسدة، تلوكها ألسنة الغالبية الهجينة أكثر مما ينبغي قطعا، ربما هي أشعارٌ ككراسي هزازة قلقة عاجزة، تبدو مربِكة للمتلقي ولا تستطيع نفسه الركودَ فيها بارتياحٍ.
ملحوظةٌ: تلحق العيوب الشِعرَ من كل جهةٍ ولا تصل رسالته إذا لَمْ يكن يخضع للممارسةِ والدربة وإذا لَمْ يعرف المرء ماهيته وأسراره والاستعدادات الأخرى المذكور بعض جوانبها هنا، التي نعدها – نحن النقاد- قوام الشعر وجوهره.
كاتبة عراقية
التحية و السلام للناقدة المحترمة
هناك دائما مدرستان في التلقي المدرسة المثالية و المدرسة الواقعية او بتعبير اخر النموذج و المحاولات.
الإبداع صعب و النقد سهل.
و الإبداع كنموذج فلتة تخليها الممارسة و الدرجة و المقومات الأخرى المذكورة في المقال.
لكن انا اعتبر ان الشعر ديمقراطية و لا أراه ارستقراطية نخبوية.
و كدليل المعلقات هناك شعراء من الشعب و علقت قصائدهم.
أوّلًا أتقدّم بالشكر الوافر لهيئة التحرير الثقافيّ؛ أنْ أتاحت لكاتبة شابة طموحة؛ فرصة النشر في جريدة القدس العربيّ…
ياملاك الشعرقرأت لك قصيدة واحدة بعنوان قطيع الذئاب في العامّ الماضي على ما أعتقد في موقع الحوار المتمدن.
أحيّ فيك روح الاستمرار والطموح والعطاء في الشعر والنثر.فقط ملاحظة محبّة لحضرتك؛ لا تركني دائمًا لمقولات
أهل الغرب بالنسبة للشعر خاصّة…لأنّ قضيّة الشعر العربيّ غير قضيّة الشعر الأوربيّ والغربيّ عامّة.غوصي في المحليّ
لينقلك إلى آفاق أوسع…المحليّة تعطيك ثقة بالمنجزّ؛ ليرفعك العطاء إلى سمو الانجاز.الطريق أمامك طويلة وأنت بنت
العشرين.ربما تنفعك كتابات محمد مندور والعقاد بشأن تحصيل ثقافة النقد المعاصر.مع التقدير.
(قد آمنت كما آمن أ. أ. ريتشاردز بمقولةِ الناقد ماثيو أرنولد، الذي سبقنا إليها منذ زمنٍ عتيقٍ: «الشعر يقوم على المعنى، والمعنى بالنسبةِ إليهِ هو كل شيء».) انتهى
ألم تجدي يا عزيزتي ملاك خيرا من مقولة آرنولد هذه في تراث النقد الأدبي العربي ؟؟ ها هو مثلا الجرجاني في كتابه الشهير «دلائل الإعجاز» يؤكد بأنه ليس هناك كلمة فصيحة وأخرى غير فصيحة، وبأنه حتى تصبح الكلمة فصيحة تصبح كذاك باعتبار مكانها من النظم وحسن ملائمة
معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها. وبهذا المعنى، لا توجد لفظة شعرية وأخرى غير شعرية، بل تصبح اللفظة شعرية حسب مكانها من النظم، إذ يقول: «ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقل عليك وتوحشك في موضع آخر» – وهنا الأهم من أقواله في الكتاب: ليس النظم هو «توالي الألفاظ في النطق بل هو تناسق دلالتها وتلاقي معانيها» – و«إن العلمَ بمواقع المعاني في النفس، علمٌ بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق»، إلى آخره، إلى آخره !!؟