■ لقد عالج الشعر العربي المعاصر منذ بداياته العديد من الموضوعات، كانت مجالا للدرس والتحليل في العديد من الأبحاث والدراسات التي عنيت بدراسته دراسة أكاديمية جادة، يمكننا أن نذكر منها هنا، على سبيل المثال لا الحصر: «الشعر العربي المعاصر/ قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» لعز الدين إسماعيل و«اتجاهات الشعر العربي المعاصر» لإحسان عباس و«أزمة الحداثة في الشعر العربي» لأحمد المجاطي (المعداوي). ومن هذه الموضوعات: الحزن – الإحساس بالغربة والضياع (في المدينة ـ في الكون ..) ـ الاتجاه إلى التعبير عن القضايا القومية الكبرى (قضية تحرر الأقطار العربية ـ الوحدة العربية ـ القضية الفلسطينية) – اتجاه العديد من الشعراء إلى التصوف يستوحون منه أجواءه ورموزه، حتى صار يمثل ظاهرة بارزة في الشعر العربي المعاصر، حيث وظفوا في بعض منجزهم الشعري الرموز الصوفية مثل: الرحلة والمرأة والخمر والإنسان الكامل والحروف. كما استخدم بعضهم التناص مع نصوص لأهم شعراء التصوف أمثال ابن الفارض وابن عربي والحلاج وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي. ومن هؤلاء الشعراء : محمود حسن إسماعيل وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي ومحمد الفيتوري وأدونيس ومحمد عفيفي مطر، وبعض شعراء السبعينيات، الذين ظهر الأثر الصوفي في شعرهم، وأعني بهم (شعراء الحساسية الجديدة حسب تسمية إدوارد الخراط)، وكلهم تأثروا بالشاعرين أدونيس ومحمد عفيفي مطر. («الشعر والتصوف / الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر» 1945 ـ 1995) إبراهيم محمد منصور، 1999. أما في المغرب، فأبرز من يظهر في شعرهم الأثر الصوفي، هم الشعراء: محمد السرغيني وحسن الأمراني ومحمد علي الرباوي وعبدالكريم الطبال وأحمد بلحاج آية وارهام.
هذه هي أهم الموضوعات العامة التي تناولها الشعر العربي المعاصر. وقد جرت مياه كثيرة تحت جسر الشعر العربي المعاصر خلال الستينيات والسبعينيات، وعرف المجتمع العربي العديد من الهزائم والنكسات مشرقا ومغربا، فظهرت حساسيات شعرية جديدة مغايرة لما ظهر من حركات سابقة. يرى الناقد المغربي نجيب العوفي، «أن الهاجس الذي كان يستوطن القصيدة الستينية والسبعينية يكاد يختلف تماما عن الهاجس الذي يستوطن القصيدة الثمانينية وما بعدها، لقد كان الهاجس الأيديولوجي والالتزامي يضخّ النسوغَ حارَّة في شرايين التجربة الأولى، وأصبح الهاجس الأنطولوجي والذاتي يسري هينا وحزينا في التجربة الثانية» (مساءلة الحداثة، «شراع» عدد 5، ص 85).
فطن بعض الشعراء المغاربة الذين ينتمي بعضهم إلى شعراء السبعينيات الذين أتيح لي قراءة إنتاجهم الأخير، إلى ضرورة حضور الرسالة الشعرية والالتحام بقضايا الإنسان المغربي الذي يعاني من صنوف من التهميش والقهر بدون التخلي عن مقومات الكتابة الشعرية.
وهكذا حلت محل الموضوعات والقضايا التي تهم المجتمع، قضايا الذات والانشغال بهمومها وأسئلتها وهواجسها الخاصة، بعيدا عن أسئلة الواقع وقضاياه. أما الشاعر المغربي أحمد المجاطي، فيرى أن الرسالة الشعرية غابت في المتن الشعري المعاصر المحسوب على الحداثة الشعرية، وسقط الشعر في مهاوي الإبهام والتعتيم، وألغي دور المتلقي باعتباره عنصرا أساسيا في العملية الإبداعية، فنتج عن ذلك بالملموس جفاؤه ونفوره من تلقي الشعر، هذا فضلا عن أنه لم يعد محل اهتمام بمشاكله وقضاياه في هذا الجنس الأدبي الذي كان ديوان العرب. وهنا يمكن طرح سؤالين اثنين: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟
يورد أحمد المجاطي (المعداوي) نصا لأحد أهم رواد الحداثة الشعرية هو يوسف الخال يؤكد ضروروة إدخال المتلقي في الاعتبار أثناء العملية الإبداعية. يقول: «يصطدم الشاعر في عملية الخلق الشعري بتحديين: الأول حدود اللغة: قواعدها وأصولها التي لا يمكن تجاهلها، إذا شاء أن يكون عمله ذا معنى لقراء هذه اللغة، وذا وجود في تراثها الأدبي. والثاني: أساليب التعبير الشعري المتوارث، والمتبع في التراث الأدبي، وهي أساليب راسخة في الأذهان وفي الذوق العام، بحيث يؤدي الخروج عليها بغير أناة ومهارة إلى إفراغ القصيدة من حضورها، بانقطاعها عن الآخر: المتلقي، إذ ما نفع القصيدة لولا حاجة الشاعر الجوهرية إلى التواصل مع الآخر» («أزمة الحداثة»).
وقد فطن بعض الشعراء المغاربة الذين ينتمي بعضهم إلى شعراء السبعينيات الذين أتيح لي قراءة إنتاجهم الأخير، إلى ضرورة حضور الرسالة الشعرية والالتحام بقضايا الإنسان المغربي الذي يعاني من صنوف من التهميش والقهر بدون التخلي عن مقومات الكتابة الشعرية، فواكبوا العديد من الأحداث المهمة الطارئة، نكتفي هنا بذكر إحداها على سبيل المثال هي فاجعة غرقى فيضانات مدينة كولميم سنة 2014. وأذكر أن الشاعر أحمد بنميمون كتب قصيدة عن هذه الفاجعة بعنوان «آخر كأس»، فجاءت القصيدة خير تمثيل لالتحام الشاعر بقضايا مجتمعه وهمومه ومعالجة الأحداث التي تطرأ فيه. إن القصيدة صرخة مدوية، ومعانقة صادقة لقضايا الإنسان في مجتمعه. وهي مهداة (إلى غرقى فاجعة الفيضانات)، نقرأ القصيدة:
وأنا أُحْمَلُ في حاوية الأزبال كانَ القلبُ
في حيرتهِ دونَ جحيمٍ سعِّرتْ، كانتْ سِياطُ النارِ مِن بعدي
وقبلي، تَحمِلُ اللحظةَ أوهامي إلى البرزخ في صمتٍ عنيفِ
ثُمَّ تمضي حيثما تَحْضُنُني سَوْرةُ آلامِ فظاعاتِ انْحِداريِ
وعلى مرمى انْدِلاعي عبثا، يَزْبِدُ نهرٌ آخر خارجَ جلدي هادرا دون تراب المقبرهْ
الخُطى إذ تنتهي في بابها
تلهثُ من خِشيةِ أن تُبْلغَ منْ حَلُّوا بها
أُنْشُودَة مثْلَ حَفيفٍ
عابرٍ في شجرَهْ،
صوَّحتْ منْ زهرتي فَوْق ضِفافٍ كنتُ فيها الطفلَ،
ما كان كساها،
من تصاوير دُنى تَزْهو
بأَنْوار شُمُوسِ الأرض ألوان طيوفِ
هي ما بينَ يدِي الآنَ
رجاءُ المَيْتِ في يابسةٍ جفَّ شَذَاها
شهقة فاضَتْ بها
في آخِري كأسُ خَريفي
من الجدير بالملاحظة أن الذات الشاعرة هنا، تتوحد مع ذوات الآخرين في معاناتهم ومأساتهم (وأنا أُّحْملُ في حَاويَةِ الأزبال)، كما يتداخل رثاء الشاعر غرقى كولميم مع رثائه الذات التي كانت تحلم في الطفولة البريئة بعالم زاه جميل، إلا أنها تصطدم في الكهولة بواقع لا تتحقق فيه سوى المآسي والآلام (هي بين يدي الآن/ رجاءُ الميْتِ في يابسة جف شذاها/ شهقةٌ فاضت بها في آخِري كَأْسُ خَريفي). ثمةَ تلاحُمٌ بين المحتوى والبناء كما يتبدى ذلك من النص. فالمعجم الشعري المهيمن على هذا النص المكثف، يحيل على الغضب الذي تتأجج به ذات الشاعر. وألفاظه هي: جحيم ـ سُعِّرَتْ ـ سِياط ــ النار ــ عنيف ـ اندلاعي ـ يصخب ـ هادرا. أما الإيقاع الذي يقوم على تفعيلة (فاعلاتن) من بحر الرمل، فإيقاع سريع متدفق، يساعده على استمرار تدفقه واندفاعه، التدوير الذي استخدمه الشاعر أربع مرات، وهو يتناغم مع ما يعتمل في الذات الشاعرة من غضب وثورة إزاء واقع مأساوي، يفقد فيه الإنسان كرامته وإنسانيته. وهكذا حملت القصيدة رسالة إنسانية من شأنها أن تؤثر في المتلقي وتجعله ينحاز إلى قضايا وهموم مجتمعه، بدون التفريط في الآن نفسه في أدوات الفن الشعري والنزول بأجنحته إلى مهاوي النثرية. ولعل مثل هذا الشعر هو الذي يمكن أن يجيب على السؤالين السابقين: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟
٭ كاتب وشاعر من المغرب