الشعر/ النص المنجم

من المعروف عن عرب ما قبل الإسلام، أنهم كانوا يتخذون من مطالع منازل القمر مواقيت لحلول الديون وغيرها؛ حتى إذا جاء الإسلام، استبدلت الأهلة بها؛ لمعرفة أوقات الحج والصوم وغيرها، وإن سموها نجوما اعتبارا بالرسم الأقدم الذي عهدوه وألفوه. وفي الآية «فلا أقسم بمواقع النجوم»(الواقعة 75) إشارة إلى نجوم القرآن، وهو الذي أنزل إلى سماء الدنيا، في المعتقد الإسلامي جملة واحدة؛ ثم آية آية أي منجما أو مجزأ متفرقا؛ وكان بين أوله وآخره أكثر من عشرين سنة. وسوغ علماء القرآنيات ذلك، بجملة أمور منها: تثبيت فؤاد النبي، لأن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة، كان أقوى بالقلب، كما يقول السيوطي؛ وتسهيل حفظه، ومراعاة أسباب نزوله، وما فيها من وقائع وأحداث، وناسخ ومنسوخ.
وهي مسوغات دينية غير علمية؛ وفيها من التناقض ما لا يخفى عن القارئ النبيه، إذ لا مناسبة بين نزول النص جملة واحدة، ونزوله متفرقا. ولا أحب أن أخوض فيها؛ فما يعنيني منها في السياق الذي أنا به، هو المصطلح الديني «المنجم». والمصطلحات حمالة مفاهيم دقيقة في وضع واضعها، وسلطتها سلطة مرجعية بالأساس؛ ومع ذلك يمكن نقلها من عالم الخطاب الديني، إلى عالم الخطاب الأدبي أو الشعري، على نحو ما أبينه في ما يأتي.
والمصادرة التي أطمئن إليها، أن النص الجاهلي مثل المعلقة والقصائد الطوال، نص منجم لا يمكن أن يكون الشاعر قاله «جملة واحدة» أو دفعة واحدة. وينهض لها أكثر من سند وقرينة. ومنها أن هذه القصيدة نشأت داخل أنماط حافزة للتذكر، أو أن الشاعر كان يضع في اعتباره أن ينشئ شعرا يمكن تذكره وحفظه؛ الأمر الذي يجعله يحاكي الأداء الشفهي، حتى وهو يؤدي قصيدته في حيز هذه «اللغة العليا». ولعل الوقوف على مكونات «إيقاع الوزن» أن يعزز من وجاهة هذا الطرح. وأهم هذه المكونات في تقديرنا القافية. فالقافية من حيث هي لازمة إيقاعية أو فاصلة إيقاعية بين البيت والبيت الذي يليه، لا تعدو في الظاهر أكثر من أداة في تثبيت الصوت أو إيقافه، إذ لا يخفى أن الصوت ـ أي صوت – ينتج عبر علاقة بالزمن مخصوصة، فهو يكون حيث لا يكون، أي هو لا يوجد إلا عندما يكون في سبيله إلى الزوال. والصوت شأنه شأن الكلمة ينتمي أبدا إلى الماضي. ومن ثمة يتسنى القول إن القافية «وقفة» تستغرق الصمت الذي يفصل بين البيت والبيت مثلما تستغرق أذن المتقبل، وتجعل الصوت يستأنف عبر رويها المتعاود، لحظة ميلاده. وكأن القافية هي خاتمة البيت وفاتحته في آن، أو هي جرس لا ينبه المستمع وحسب، وإنما يساعده أيضا على التذكر، أو هي تصطنع ذاكرة للذاكرة نفسها، أي ذاكرة الصوت الذي لا يكاد يشرد من سمع المتقبل مع بداية كل بيت، حتى يطرق أذنه ثانية، وهكذا دواليك. فهي التي تثبت حركة الإيقاع مثلما تثبت لحظة سكونه، وكأنها تؤدي بذلك ما تؤديه الكتابة عادة، وتقوم مقام حجر الزاوية في نظام القصيدة الإيقاعي الوزني. ونقدر أن في هذا مظهرا من مظاهر الكتابية، في القصيدة العربية القديمة، التي يصعب الإقرار بأن أداءها كان أداء شفويا خالصا. فلعل الأقرب إلى الصواب أن نقول إنها أداء شفوي يحتفظ بنمطية كتابية؛ وينقلنا من ذاكرة إلى صورة مكتوبة، حتى وهي تصاغ في هيئة تجعلها قابلة للحفظ والاستظهار. وهذا النص الشعري المنجم، تنتظمه بنية عطفية تنهض بها القافية على نحو ما تنهض بها الفاصلة في القرآن؛ وهي تعطف البيت على البيت الذي يليه، وتحول دون تداخلهما؛ ولذلك عد «التضمين» أو»المعاظلة» عيبا في نظرية العمود الشعري؛ إذ يمكن أن يفضي إلى تشتت الذاكرة. فلا يخفى أن القافية، كلما استقل البيت بذاته معنى ومغنى؛ هي التي تثبت القاعدة التذكرية وتساعد على حد المعنى وضبطه.

وربما أمكن بناء على هذا، أن نعيد النظر في «شفوية» الشعر الجاهلي، وأن نفسر ظاهرة تكرير المعاني والموضوعات والصيغ في الشعر العربي قديمه ومحدثه. وكثير منه «مقولب» أو هو من معاد القول ومكروره، وربما أعوزته الصفات الفردية المميزة التي هي ضالة الشاعر.

وهي أداة تجميع تجعل الكلام يأخذ بعضه برقاب بعض، حسب العبارة المأثورة. على أن القافية تنهض بوظيفة أقرب ما تكون إلى الوظيفة الكتابية. فهي بحكم تكريرها تتيح للسامع أن يظل في الصميم من السياق الذي يجري فيه الكلام؛ مادامت بحكم ثباتها؛ تحول دون عطب المنطوق، وتبني خطا من «الاطراد « داخل بنية «الاستطراد» التي تقوم عليها القصيدة، على نحو ما تقوم عليه السورة القرآنية. وبنية الاطراد/ الاستطراد حيث الانتقال من مشهد إلى مشهد؛ تجعل القصيدة صورة من فن التوريق العربي، أو مثل «الأحجية الصينية» وكأنها صناديق داخل صناديق، أو هي ترد في هيئة من العناقيد. وقد يذهب في الظن أن هذا الضرب من الاستطراد من شأنه أن يشتت انتباه المتلقي؛ وهو ينقله من موضوع إلى آخر، الأمر الذي يقتضي نوعا من الاطراد يجعل المتلقي منشدا إلى «الفضاء السماعي « الذي تجري فيه القصيدة. على أن القافية تنهض بجانب من هذا الاطراد أو التواصل اللفظي الذي يحكم بنية الشفهية، لما تتوفر عليه من دينامية الصوت أو حيويته حيث الروي أشبه بصدى يتردد في جنبات القصيدة.
فلعل هذه الظاهرة أن ترجع إلى النص المنجم أي إلى الكتابة، وليس إلى الشفوية كما دأبنا على القول؛ أي الكتابة التي نشدد على أنها يمكن أن تنشأ خارج الأمية بالخط، خاصة عند شعراء المعلقات والقصائد الطوال؛ وهم يعانون معضلة اللغة، ويعتصرون فكرهم، ويكدون خاطرهم؛ ولا يكتفون بالتعويل على تلقين الطبع وقوة الذاكرة، وإنما كانوا يستعينون بملكاتهم العقلية على تثقيف قصائدهم وتقويمها. وأوزان الشعر عندهم محفوظة في الذاكرة «الإرادية» يفزعون إلى مذخورها، ويديرون على أي منها قصائدهم، دونما حاجة إلى الاستعانة بها مكتوبة. فهي بمثابة «مثال ذهني» في ذاكرة الشاعر، أو «صيغة» تعهدها التقليد الشفوي، وجعلها تجري مجرى «الكفاية» اللغوية. وهو ما قد يفسر عزوف الشاعر الأقدم عن كتابة قصيدته، إلى اعتقاده في أن الشعر»سر» أو أن فيه سرا خفي الشأن، كما تدل على ذلك معتقدات العرب الأسطورية في «شياطين الشعر» و«توابع الجن»؛ فمصدره قوى غيبية أو غير منظورة، الأمر الذي يجعل من الشعر «صوتا داخليا لا يمت إليه أي صوت بشري بصلة» فلعل الشاعر القديم تحاشى كتابته حتى يحتفظ له بكامل «قداسته» أي «بسره».
وهذه أمارة من أمارات النص المنجم أو الكتابة ومكابدة اللغة، وأكثر ما يعززها «الشعر على الشعر» لديهم أو»الخطاب الواصف» حيث الكتابة تتملى ذاتها وتتفكرها وتتدبر بناها ووظيفتها. والنص المنجم لا ينبثق من»إزهار» فجائي أو مباغت، حتى في الشعر «المرتجل «المنسوب إليهم. وما قولهم «صمت ساعة ثم قال» سوى دليل على أن البيت «المرتجل» لا يرسل إرسالا على السجية، أو عفو الخاطر، وإنما يصنع ذهنيا في صمت، حيث يقلب الشاعر مقوله تحت رقابة «الأذن الداخلية» قبل أن يلقيه أو ينشده. وفي تجربة كتابية كهذه، ليس ثمة فكر/شعر أو لغة/ شعر، وإنما شعرية فكر أو شعرية لغة قد تتحول إلى «فكر شعري» أو «لغة شعرية» وقد تنهض القصيدة لذلك وقد لا تنهض. فهذا منوط بالمتقبل وبأحكام القيمة التي يأخذ بها.
وتتعزز مصادرتنا «النص المنجم» بما عالجه القدامى في حديثهم عن الصنعة الشعرية، وما سموه بـ«تنقيح» الشعر و«تثقيفه» و«تحكيكه» و«تجويده». وقد ذكروا غير واحد من هؤلاء الشعراء «عبيد الشعر» الذين كانوا يثقفون شعرهم مثل، زهير والنابغة والحطيئة وطفيل الغنوي، الذي كان يسمى بـ«المحبر» والنمر بن تولب، الذي سماه أبو عمرو بن العلاء بـ«الكيس» وسويد بن كراع وغيرهم مثل مسلم بن الوليد، الذي سماه ابن رشيق «زهير المولدين» لأنه «كان يبطئ في صنعته ويجيدها» بعبارته، وقس على ذلك أبا تمام والمتنبي والمعري.
وربما أمكن بناء على هذا، أن نعيد النظر في «شفوية» الشعر الجاهلي، وأن نفسر ظاهرة تكرير المعاني والموضوعات والصيغ في الشعر العربي قديمه ومحدثه. وكثير منه «مقولب» أو هو من معاد القول ومكروره، وربما أعوزته الصفات الفردية المميزة التي هي ضالة الشاعر. فكلما كانت مفاضلة بين الكلمات أو موازنة كانت كتابة، إذ يمكن أن تشطب الكلمة، ما أن تدون، وتطرح وتستبدل بأخرى. وهذا صنيع لا يتسنى إلا في الكتابة؛ وليس له مقابل في الأداء الشفهي إلا إذا دوّن. والكتابة «الخالصة» صناعة. ولا يمكن لمن يكتب إلا أن يصنع ويصحح ويزيل الأسقاط، حتى لكأن وعي اللغة من وعي الكتابة؛ الأمر الذي يفسر هذه الظاهرة التي نحن بصددها «النص المنجم» أي وعي الشعر في الشعر.

شاعر وناقد تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فريد:

    “فلا اقسم بمواقع النجوم. وانه لقسم لو تعلمون عظيم”. بل المقصود بالنجوم في الآية الكريمة، والله اعلم، هي النجوم ذاتها. فنحن نرى الضوء القادم من النجوم بعد سنوات او مئات السنين الضوئية احيانا.وقد تكون النجوم قد غيرت امكنتها او اختفت تماما.

إشترك في قائمتنا البريدية