إن تأمل العلامات في الشعرية الجديدة وطرائق تشكلها، سيجعل من العلاقة بين النص والقارئ أكثر حميمية، ويحررها مما يطلق عليه البعض: أزمة قراءة الشعر. وبالفعل فالأزمة تتمثل أساسا في مواكبة القراءة النقدية للشعريات الجديدة، خصوصا بعض الأطروحات الأكاديمية الجديدة التي جعلت الهوة تتسع بين الشعر وقارئه وجمهوره، بأن جعلت الشعر حقلا لاختبار مفاهيم صارمة بعيدة عن استكناه آفاق الشعرية الجديدة، وفضلا عن ذلك هيمنت المفاهيم المجردة التي تجعل النص بنية جامدة في الزمان والمكان.
إن فاعلية العلامة في النص الشعري تكمن في قدرتها على التوليد اللانهائي للمعنى، وقوة التواصل التي تحققها مع قارئ النص، وهذا ما يتجلى من خلال قدرتها التصويرية، والخيال الذي ينتجه المدلول، بعد أن ينزع عن الأشياء الطابع الاجتماعي المألوف، ليحل محله إبدال آخر، وهو ما سماه دوسوسير الطابع الفردي للكلام، في مقابل اللسان باعتباره يحيل على المؤسسة الاجتماعية. بيد أن هذا التصور للعلامة، الذي يقوم على التمثل النفسي للمدلول وعلى الثنائية التي انتشرت بالخصوص في نظريات البنيوية، يستلزم إعادة النظر وتجاوز هذا الأفق المحدود الذي حاصر كيفية اشتغال العلامات، وإنتاجها للمعنى المحتمل، قد شكلت العلامة – سواء في الكتابات البنيوية مع دوسوسير وكلود ليفي ستراوس ولا كان وبارث، أو ما بعد البنيوية مع ديريدا، وسائط للتعبير عن الوجود والذات والآخر . بيد أن هذا المسار الذي قطعه فكر العلامات، يكشف تحولات في تمثلات الوجود والكينونة من خلال وسائط العلامات، وبالتالي تجاوزت نظرية العلامة، كما ظهرت بعد البنيويين، الطابع الأحادي الذي ضيق الخناق على النص والتخييل. وتأسيسا على ذلك، لم تعد العلامة تنحصر في معنى أحادي يستنفد جمالية النص، بل أصبحت الرمزية التي تتجسد في فكر العلامة تفتح الحدود وتوسع نطاق التأويل و«الاهتمام الوحيد بالرمزية، يتصل بفكرة أن الرمزية بما تنطوي عليه من بنية مزدوجة للمعنى، تكشف عن التباس الوجود: الوجود يتحدث بطرائق مختلفة. فالمبرر الأساسي للرمزية هو أنها تفتح تعدد المعنى على التباس الوجود».
إن قراءة النص بعيدا عن فلسفة العلامة ومختلف تمثلاتها باعتبارها آلية لتوليد المعاني بتعبير بارث، يضعنا داخل نقد يجرد النص من كينونته، وينزع عنه العمق الإنساني الذي يميزه. فأغلب الأطروحات النقدية للشعريات الجديدة، تستند إلى قراءات جاهزة، لا تجدد أدوات القراءة، وتجعل النص الشعري اليوم تكرارا مملا لمشاعر وانفعالات، لم تعد تعني قارئ القرن اليوم، كما أنها تحاول أن تفرض قوانينها الخاصة على القارئ، بدل إثارة أسئلة الشعر والنفاذ إلى العمق الإنساني الذي يسبر أغوار الشعر نفسه، وهي فضلا عن ذلك تغيب القارئ ووضعه التواصلي ضمن معادلة الكتابة. وبما أن الأزمة في الإنتاج والتلقي معا، علينا إعادة الاعتبار للنظريات كلها ـ التلقي والشعرية والدلائلية – من منظور جديد ينطلق من مفهوم العلامة، التي تخلق صلة تواصلية بينها وبين خطاب الشعر، لأنها قد تتضمن الرمز أو القرينة أو المشابهة من جهة، ونظرا للتمثل النفسي للدال والتصور التخيلي للمدلول، وأخيرا نظرا للعلاقة الوجودية التي تحتويها مع مستعمل اللغة (العلامات).
إن البحث في الهوية ليس بحثا في الشكل فقط، أو حصرها في مفاهيم تخلق الالتباس مثلما الأمر بالنسبة لـ: الخصوصية، الجيل، الحساسية، ففضاء البيت الشعري يشكل الهوية الشعرية، التي ترتبط بجغرافيا الذات بكل علاماتها الدالة على الوجود.
إنها تقوم في أصولها على إدراك الظواهر الفينولوجية، ولا نعني بها الموضوعات الخارجية فـ«الصورة علامة واقعيتها تشير إلى الموضوع المتخيل». وقد قدم ياكبسون وصفة موسومة لمعالجة النص الشعري في إطار بحوثه اللسانية، حين أشار إلى وظائف اللغة، التي يمكن إدماجها في بحوثنا حول العلامة، كما يمكن أن نعود إلى مفهوم الوظيفة المهيمنة، إسوة بما قدمه الشكلانيون الروس، وندمج هذه المنجزات في مباحث تستقصي وضع العلامات وإنتاجيتها الإبداعية، داخل فضاء النصوص الشعرية.
إن لغة الشعر لن تقف عند حدود الوزن، أو عند الإيقاع الداخلي والخارجي، أو حتى عند حدود الدلالة والإيحاء والرمز والاستعارة، إنها باختصار ستقف عند حدود اللانهاية، التي تتولد عن اشتغال نسق العلامات، التي يسعى القارئ اليوم إلى اكتشافها، مثل لانهائية معنى النص التفاعلي الشعري، الذي يتحقق عبر وسيط الإنترنت. إن النقد اليوم، خصوصا الأكاديمي منه، يجب أن يتجاوز الخطر المحدق بجنس الشعر، وأن يقوم بدوره في تقديم وكشف هوية الشعرية الجديدة، التي تنزع إلى بناء خطاب يلامس أسئلة القارئ اليوم، وتقديم جماليات تضاهي جمالية الصورة المتحركة التي استأثرت بالعقول، ووجد فيها القارئ – المشاهد الشعر والحرية والهوية، بفعل سلطة خطاب الإعلام، سواء كان راقيا أم مبتذلا، بينما صرف تفكيره عن جنس الشعر الضارب في القدم، بفعل تقيد بعض النقاد بالمعيارية ومفاهيم مثل الجيل، الحساسية. وهنا يمكن أن يتسع مجال البحث في هوية الشعر الضائعة بين أجناس تاريخية وخطابات وتمثلات وجودية، كالحلم والكينونة والفضاء، وعلاقته بالمنغلق والمنفتح، والمتصل والمنفصل، الحاضر، المحدد واللامحدد، الغائب باعتبارها مفاهيم تشكل امتدادا لكيان العلامة.
إن البحث في الهوية ليس بحثا في الشكل فقط، أو حصرها في مفاهيم تخلق الالتباس مثلما الأمر بالنسبة لـ: الخصوصية، الجيل، الحساسية، ففضاء البيت الشعري يشكل الهوية الشعرية، التي ترتبط بجغرافيا الذات بكل علاماتها الدالة على الوجود. إن البيت حسب هايدجر تعبير عن الكينونة والمسكن الروحي للذات الشاعرة. خارج هذا البيت هل هناك وجود؟ فالمتلقي يبحث عن بيت يسكنه بالمعنى الروحي للسكينة، ويأويه من قيظ مشاعر الحياة، ويستجيب لأسئلته الوجودية، إننا ندرك فضاء البيت من خلال العلامات، وهنا تبدأ الهوية الشعرية في التشكل.. بيد أنه كلما كان إدراكنا لهذه العلامات يتجاوز وحدة الدال والمدلول، والنسقية المغلقة، أو اكتشفنا أنها أنساق علامات تحقق الاتصال والانفصال بالعالم وتخاطب الذات، وتوقظ هاجس السؤال، كلما بدأنا ندخل عالم اللانهائي، الذي نبحث من خلاله على الجمال، الذي لم نشاهده في صور أخرى من العالم، وبالتالي نقف أمام حدود القصيدة التي ترمي بنا إلى لانهاية الحلم وإنتاج رؤية للعالم. ولم تعد هذه القضايا تعكس فقط جمالية سطحية، ومجرد تزيين وتزويق، كما عرف في شعر الانحطاط؛ بل هي أفكار وثقافة ونمط حياة يحدد الكينونة ويتحدث عن الذات ويخاطب الآخر. إنها بمعنى آخر تواصل أنثروبولوجي، بما أن العلامات في حد ذاتها وسائط لفهم العالم، والاستجابة لحاجات إنسانية التي تتأسس على جدلية الداخل والخارج. وهذه الأشكال التواصلية التي نعثر عليها بالصدفة، أو كما ألمح إليها هوسرل حين يتحدث عن المقصدية وغيرها، هي التي بإمكانها إيقاظ علامات الشعر، ونفخ الحياة في جسدها، كما تنفخ العلامة الأمل والحياة في الجسد والعبارة والمعنى عند كل قراءة فيتحقق التواصل بين النص والقارئ .
٭ كاتب مغربي
تحليل جيد ومنطقي .هذا غير غريب على أستاذ التواصل. مزيدا من التألق أستاذي وصديقي. تحية من موريتانيا بلد المليون شاعر