الشعر… بدائية اللغة والثورة المقبلة

إن رؤيتنا للشّعر – مفهوماً وممارسة – لم تعد أسيرة التّصورات النقية، التي استندت إلى منظومة سياقية ثقافية تتصل بالبيئة والتّحولات التي سادت لقرون خلت. فالشّعر في مجال الثّورات الصناعية المتتالية قد تعرّض إلى الكثير من تحوّلات الصيغ الأيديولوجيّة والفنية، أو لعله إلى حد ما أصابه شيء من العوار على مستوى التلقي، فالمدنية مصحوبة بالثورة الصناعية الرابعة (الشرسة) أجهزت على الكثير من الروح الرعوية، أو بدائية اللغة الشّعرية.
وهنا لا يمكن الجزم بأن الشعر – على الأقل في الذاكرة العربية- يبدو أقرب إلى الروح التي لا تخضع للتصورات (العلموية)، فالمدنية بمعناها الأشد ضراوة ربما تكون أقل اتصالاً بهذه الروح، على الرغم من أن الشعر العربي الحديث اتخذ صيغته في صدى تحولات الثقافة الطارئة، ولاسيما بعد منتصف القرن العشرين، إذ بدا باحثاً عن شيء من الحداثة التي لم تكتمل، غير أن بداية الألفية الثالثة أحدثت شيئاً من الصدمة في مجال الكتابة الشعرية، التي تراجعت نتيجة بروز مصدر شديد الاتصال بالروح الجديدة لعوالم الثورة الرابعة، التي طمست الحدود بين القطاعات المادية والرقمية والبيولوجية… ومن هنا، فإنني أعود إلى التأكيد على ربط الشعر بنزعته الحقيقية، التي على ما يبدو أنها بحاجة لاستعادة صيغ أقل آلية وجفافاً، وخاصة في عصر غير مسبوق قد أفسد الروح الشعرية نتيجة الفائض من الكتابة المجانية، أو الفاقدة للرؤية، حيث تمارسها مجاميع بشرية تمكنت من امتلاك ناصية النشر، بالتّجاور مع انحسار الرؤى المضادة للمادية في العالم، الذي لم يعد يقدر أنساق الرعوية، فالمشاعر لم تعد بالقدر نفسه من الدفء، وعملية الانتقال أو الثورة على التقاليد الشعرية لم تعدّ غاية، بل إن الفعل الجمالي، أو تلك النشوة لم تعد ذات تقدير في منظور الكتابة المعاصرة… فهل يمكن أن نقول بأن التوغل نحو القيم الصناعية بثوراتها، ربما يقضي على الروح الشعرية، وهل يمكن القول بأن عصرنا بات مفتقرا للروح الشعرية الحقّة؟
ثمة دراسة لافتة للناقد الأمريكي جون كرو رانسوم ترجمها الروائي والأديب الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، وفيها نقع على بعض النقد أو الهجاء لفقدان العالم للروح الشّعرية، حيث أفسدت مفرزات التطور الصناعي جمالية الإنتاج الشعري، وهنا يفتتح رانسوم مقالته بقصة بسيطة عن صياد يصيد السمك في نهر يقع في إحدى البلدات الأمريكية، إذ يلتقيه رجل يسير بسيارته في محاذاة النهر، فيسأل الرجل الصياد إن كان قد اصطاد شيئاّ، فيجيب الثاني بالنفي، ومرة أخرى يسأل الرجل الصياد عن وجود سمك في النهر، فيجيب الصّياد بأن السّمك لم يعد موجوداً من زمن بسبب الطريق الجديدة، التي قتلت السمك في النهر؟ لعل (الطريق) يرمز إلى العصرية التي قد قتلت جزءاً من الطبيعة، ومع ذلك، فإن الصياد مازال مصراً على الاصطياد في النهر. هذه القصة تعكس تشبث الصّياد بروح الفعل، على الرغم من عدم تحقق الجدوى، غير أنه يحفل بعناصر جمالية، كالماء والشجر والغابة، وصوت العصافير والرائحة.. إنه مازال متمسكاً بروح الجمال، وهذا يعادل الفن، أو كما يقول رانسوم، بأن علمية الصيد بحد ذاتها هي الفن، في حين أنّ عملية استخراج السمك أقرب إلى العلم، كونه يحتفي بالنتائج، ولا يحفل بالسياقات أو المزاج.

الطريق الجديدة التي ترمز إلى الروح العقلانية أو المادية للعالم هي التي طغت، في حين أن الفعل المتمثل بالصيد يعني إطلاق طاقات من الدّلالات، أو المعاني غير المحددة، إن رانسوم يرى أن الأمر لا يتعلق بتقرير انعدام فعالية الشعر، إنما ببدائيته

إن الطريق الجديدة التي ترمز إلى الروح العقلانية أو المادية للعالم هي التي طغت، في حين أن الفعل المتمثل بالصيد يعني إطلاق طاقات من الدّلالات، أو المعاني غير المحددة، إن رانسوم يرى أن الأمر لا يتعلق بتقرير انعدام فعالية الشعر، إنما ببدائيته، فالشعر يكمن في اللغة، وهي التشكيل الكلي، والمتضمن في صور اللغة، وهنا تتبدى المعضلة الشعرية لدى شعراء لم يتمكنوا من إدراك كنه القيمة الشديدة للتطرف في الكتابة الشعرية. إن أفعال التمدين الجديد للثورة الرقمية قد باتت أقرب إلى المزاج السردي، ومع ذلك، فلا يمكن أن ننكر أن الكتابة الشعرية مازالت مستمرة، ولكن من أسباب العزوف عن التلقي – ربما- يكمن في أن اللغة باتت معطّلة، أو أنها مصابة بجرثومة قيم المعاصرة أو المدينية أو النموذج العصري؛ بمعنى آخر هيمنة العالم العقلاني المتسم بالوضوح، أو التنظيم الشديد.. فثمة تبدل في نموذج الحياة الذي أمسى آلياً، أو فوضوياً؛ لأن الآلة لا تعقل، أو لا تدرك معنى الجمال، أو لأن العالم تقوده مجموعة من رجال الأعمال، أو المعتوهين.
إن قيمة الاستهلاك الخطابي لمنصات التواصل الاجتماعي أجهزت على الروح البدائية والمتمردة لدى الشاعر، أو اللغة، حيث أمست لغة بعيدة كل البعد عن الذّاكرة الشعرية القائمة على محاولة هدم العالم، وبناء عوالم جديدة تحفل بالأثر المتمرد والثائر، فالشعر في تكوينه، أو مساره الكوني المطلق، كان دوماً شديد التعلق بالهدم، أو التدمير الممنهج والمصحوب برؤية يمتلكها الشعراء الحقيقيون، وهنا لا نعني على مستوى التشكيل الفني، إنما هذا يطال المنظور والفكر والأيديولوجية، فامرؤ القيس كان يتميز برؤيته النافرة عن صيغ عالمه، وهذا ينسحب على معظم الشعراء في كل العصور، فثمة دوما خروج قيمي عن تكوين الشعر، ولغته كلما استقرت، وهذا يشمل العالم الذي لن يتهادن معه.
إنها لحظة الصدام الحتمي مع العالم بما يحمله من رؤى أو لغة، كلما اكتملت ينبغي هدمها، والخروج عنها، فالمتنبي كان في لحظة تصادم مع عصره، في حين أن أبا تمام كان يسعى إلى تجاوز عصره، وهكذا كان أبو نواس في تمرده على تقاليد القصيدة العربية، ونزعتها الطللية، وهناك الكثير من النماذج التي هدفت إلى فكفكة العالم القائم على نحو يتقصّد إصدار فوضى عبثية، لا يمكن أن يعبر عنها إلا بالشعر، كما في قصائد بدر شاكر السياب على سبيل المثال، من حيث التمكين للموروث الأسطوري والرمزي، أو كما أيضاً في شعر نزار قباني وانزياحه، وغير ذلك الكثير من النماذج.
إن مسار الشعر، أو اللغة الشعرية كانت – دوماً- في مجال من التعالي على نماذج اللغة القارة، غير أن الأهم رؤية الواقع المعبر عنه، وهنا ينبغي أن نتوقف مطولا عن الواقع، فعن أي واقع نتحدث؟ إن الثورة الصناعية الرابعة خرقت الواقع من ناحية التعريف، والإيقاع، فالعالم لم يعد سراً، والصوت بات في وضع متأخر مقابل الصّورة، في حين أن اللغة باتت مجسّدة أكثر من ذي قبل. إن فاعلية النشر العبثي أفرغت طقوسية الكتابة بوصفها فعلاً نخبوياً، فقيم التفاعل السّريع مع الكتابة المستمرة بات أمراً لا متناهياً، وهذا دفع البعض إلى الزهد في الكتابة، لأنها أضحت مجالا مستباحاً، وفي ظني أن هذا جعل من الشعر واقعاً في مفترق طرق، فثمة الرؤية الارتجاعية التي تتمثل النموذج التقليدي في كافة الأنماط البلاغية الموروثة بما فيها المنظور، التي مازالت تؤمن بتعريف واحد للشّعر، مقابل بقايا محاولات الانتهاك الشعري مجسدة بالشّعر الحر، وقصيدة النثر، ما يعني أن الشعر ينبغي أن يحفل بالمنظور الثوري الرعوي، كي يبقى محافظاً على رونقه، ومن هنا، فلا جرم أن يحدد رانسوم أربع عشرة نقطة للتّحولات التي طالت الشعر، وهي في مجملها تتصل بنزعتها المضادة للنظام المنبثق من هيمنة المادي على الروحي، فثمة ثنائيات ومنها الانتظام مقابل الفوضى، المدينة وما يناقضها، العاطفي مقابل العقلاني.. وهكذا، يرى رانسوم يرى أن اللغة البدائية تعني كل ما هو مضاد للعقلاني أو الفكر، وهنا يبرز السعي إلى لغة متعددة الدلالة، أو التأويل من خلال تراكم الانزياحات، أو كما يقول ت س إليوت: «أن تزحزح اللغة عن مواقعها»، وهذا ما ينقلنا إلى توضيح مفهوم بدائية الشعر لدى رانسوم، حيث يرى أنها:« أسلوب من التفكير العتيق الذي لا يماشي العصر»، ولكن هذا لا يعني رفض منهج التحديث على مستوى الشّعر، فالكتابة الشعرية يمكن أن تتطور، وأن تثور على النمطية السّائدة نتيجة تحولات العصر، فهذا شكل من أشكال التعبير لا عن إيقاع العصر، بمقدار ما هو رؤية مضادة لما هو قائم. إنها حالة من حالات التخريب المستمرة؛ ولهذا كان الشعر لقرون خلت قادراً على أن يستعيد حيويته، فقد كان يعرف أن غريمه العقلاني يمكث في الوعي، غير أن التكنولوجيا الساحقة، وتلاشي الحدود بين نماذج الواقع والحلم قد أحدث نوعاً من التشويش أو الارتباك في فهم العالم، وهكذا فقدنا بدائية اللغة، والشّعور، إذ بات الشّعر في حالة انتظار الثورة المقبلة التي ربما تنهض على استعادة الرّوح البدائية للغة الشعرية بغية التّسامي على الواقع المتعدد الوجوه والمستويات.

٭ كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    الكاتب العربي أ.رامي أبو شهاب

    احييك واحيي فيك ان المقال من أوله لآخره لم يتضمن اصطلاحات احنبيةبل كان عربيا خالصابمفرداته واصطلاحاته
    أقول:

    الشعر لن تخبو رسالته
    ديواننانحيا وإن نبلى

    وقال قبلي الشاعر لله دره:

    وَإِنَّما الشِعرُ لُبُّ المَرءِ يَعرِضُهُ
    عَلى المَجالِسِ إِن كَيساً وَإِن حُمُقا

    وَإِنَّ أَشعَرَ بَيتٍ أَنتَ قائِلُهُ
    بَيتٌ يُقالَ إِذا أَنشَدتَهُ صَدَقا

  2. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    أبو تاج الحكمة الأول :

    جمال اللغة العربية

    رشدوا فما ساءت بهم أمم

    صعدوا فمانقصت بهم قمم

    عدلوا فما كانت بهم بلوى

    سندوا فلا يأتي بهم ألم

    ستروا فلا عثرت بهم مهج

    صدقوا فما كانوا الورى ظلموا

    سمعوا فما عين بهم تبكي

    نشروا لنا كرما فما حرموا

    هذه الأبيات تقرأ من اليمين المدح ومن اليسار للذم
    شعر أبو تاج الحكمة الأول باريس

  3. يقول حي يقظان:

    قصة «صياد السمك وسائق السيارة» التي استخدمها رانسوم منذ أكثر من نصف قرن، توحي بجانب لاإنساني ولاأخلاقي يكاد ألاَّ يضاهيه جانب لاإنساني ولاأخلاقي آخر على المستوى الشعري، تحديدًا:
    فعلى المستويين الحرفي والمجازي، توحي القصة بأن «الطريق الجديدة» قد قتلت معظم الأسماك في النهر ولم تتح للصياد، من ثمَّ، فرص اصطياد (أي قتل) السمك على أهوائه، كما كانت عليه الحال في الماضي.
    تُرى أي الطرفين (القاتلين) أكثر وحشية هنا: قتل الأسماك «عصريًّا» بصعقة ديناميت واحدة (لإنشاء طريق أو بناء سد، إلخ) بحيث أن هذه الصعقة لا تتيح للأسماك أي وقت كي تشعر بتباريح الموت (سوى «تبريح» الموت الفجائي ذاته)، أم صيد (أي قتل) الأسماك «رعويًّا» بصنارة واحدة وبسحبات خيط متعددة (عن طريق خداعها بالطعم) بحيث تشعر السمكة إذا علقت بالصنارة بتباريح موت قد تستمر لساعات إلى أن تلفظ نفسها الأخير – والأسوأ من ذلك كله أن السمكة العالقة تشعر بألم مزدوج في هذه الحال، ألم تثقيب وتجريح الصنارة ذاتها وألم انقطاع التنفس لحظة الخطف من الماء؟
    هكذا بكاء ورثاء شعريان على الرعوي القديم، كما يُوحى بهما هنا، إنما يثيران الضحك والسخرية كُلَّهُمَا، في حقيقة الأمر!

  4. يقول ثائر المقدسي:

    أبو تاج الحكمة، تحيات… كيف عرفت (أن المقال من أوله لآخره لم يتضمن اصطلاحات أجنبية بل كان عربيا خالصا بمفرداته واصطلاحاته)… ؟؟؟
    هناك في المقال العديد من المصطلحات الأجنبية المترجمة إلى اللغة العربية مباشرة… مثل “منظومة سياقية” و”ثورة صناعية (رابعة)” و “روح رعوية” و”نسق رعوي” و”علموية” و”آلية” و”فوضوية” و”رجل أعمال” و”تواصل اجتماعي” و”فكفكة” و”انزياح” و”نمطية” إلخ…
    هذا عدا وجود المصطلحات الأجنبية المعربة أيضا … مثل “أيديولوجيا” و”بيولوجيا” وتكنولوجيا” إلخ… !!!
    إلا إذا كنت تعتبر هذه كلها (مفردات واصطلاحات عربية خالصة)، كما تقول… !!!

  5. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    (المقدسي الثائر ) الغالي
    فخر الرفاق لفكرك العالي

    شكراجزيلا لك
    نعم انها مفردات عربية خالصة وطبعا اعترض على
    أيديولوجيا” و”بيولوجيا” وتكنولوجيا”
    لكن مع الاسف أصبحت ضمن الأبجدية البديهية واتمنى استبدالها بتعريبها المماثل
    لقدشجعت الكاتب الكريم لكونه تفرد عن سائر الكتاب بنسبة هائلة من المصطلحات العربية التي اثلجت صدري يعني ٩من ١٠ جزاه الله وإياكم والجميع كل خير
    [email protected]

  6. يقول سلمى سعيد:

    الأخ حي يقظان ، أقف إجلالا واحتراما لإنسانيتك النادرة والفريدة ، ولقدرتك على كشف الاعوجاج الأدبي والانحراف الفكري حتى في ما بين سطور النصوص الأدبية (الكبيرة) ، وأضع هذه الكلمة الأخيرة بين قوسين لأن النصوص (الكبيرة) التي تتكشف عن هكذا اعوجاج وانحراف بمقدرات كمقدرة الأخ يقظان ليست بالنصوص الكبيرة لا في الواقع ولا في الخيال !!

  7. يقول سادن (حارس) النور النبوي السعيد الشريف المبارك أبو تاج الحكمة الأول:

    بسم الله الرحمن الرحيم
    أبو تاج الحكمة الأول :

    بمناسبة مرور 30عاما علي في المنفى الطوعي

    يا جدتي يا فاطم الزهراء*
    هي هجرتي طالت وطال بلائي
    أواه يا أماه* مما نابني
    من مشكلات الدهر للغرباء
    الطيبون الصادقون تبعثروا
    ومن الورى عاشوا صميم الداء
    الناس تحفل بالقوي وتصطفي
    دار الغني وزائف الأضواء
    هذي ثلاثون من السنوات قد
    مرت علي بغربتي وعنائي
    مما يخفف عن فؤادي كربه
    نسبي الشريف لفاطم الزهراء*
    يانور كل العالمين نساءها
    ياهيبة الدارين تاج نساء
    هاهم أرى الطلقاءعادوا مرة
    أخرى بنفس الداء والأعداء!!!
    هيهات للنور المبين جلاؤه
    وهو العُلا والزاد للفطناء
    ابدا منارة مهجتي وسلالتي
    أماه* أني منك في الأبناء

    *عليها السلام ،اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم وبارك

إشترك في قائمتنا البريدية