رغم أن كثيرين حاولوا، منذ أزمنة شتى، صكَّ تعريف للشعر، إلا أنه استعصى عليهم جميعا. غير أن الشعر، في الحقيقة، يبدو جميلا وممتعا ومدهشا حين يمسُّ النفس الإنسانية، ويقترب من تفاصيلها الدقيقة، معبّرا عنها وعن همومها وآلامها، طموحاتها وخيباتها، ساعيا إلى علاجها بما يتركها فيها من متعة ويصنعه لها من سعادة. وبقدْر ما يجيد الشاعر التوغل في أغوار النفس الإنسانية، بقدر ما يُنتج قصيدة حقيقية ومؤثرة شعريا وإنسانيا.
بالنسبة لي، إن لم أقلْ على القصيدة بعد انتهائي من قراءتها، الله، فلا أراها شعرا، ربما تكون شيئا آخر، أيضا يبهرني الشاعر الذي يفتش في أعماق الإنسان والكون والحياة عن الأفكار الطازجة العذراء التي لم يفض بكارتها أحد من قبله، والتي لم تطأها قدما قصيدة من قبل. يبهرني الشاعر الذي يحاول أن يسلك مسارا خاصّا به، لا يشاركه فيه غيره، ولا يقلد أحداً، ولا يستسهل كتابة القصيدة. يبهرني الشاعر الذي لا يكتفي بكونه شاعرا، بل حين أقرأ قصائده أراه شاعرا متأملا، فيلسوفا، حكيما، طبيبا مداويا، ويداً تربّت على أفئدة القراء لتخرجهم مما هم فيه، إلى أفق أرحب وأسعد وأمتع.
يبهرني الشاعر الذي يجعل من قصيدته مصدر دهشة وسعادة لمن يقرأها، داعيا إياه إلى التفكّر والتأمل معه في ما حوله، تاركا له متعة لا حد لها.
٭ ٭ ٭
لا يريد الشاعر الويلزي المولود منذ مئة عام تقريبا آر. إس. توماس في قصيدته فن الشعر أن يٍسأله أحد، حتى هو نفسه، عن وَصْفةٍ للقصيدْة ويفسر ذلك بأن الشعر كان ولا يزال يتواصل فينا منذ زمن ما.. غير أنه يُعرِّف الشعر بأنه سِحر منسوج من أحرف صامتة وصائتة في غياب المنطق. الشعر فقط يصل العقل عن طريق القلب. كذلك يطلب توماس في قصيدته تلك ألا يسأله أحد عن قافية للقصيدة وألا يؤمن إلا بإيقاع الحياة لأن اللغة تخادع إن استطاعت، وكذلك النحو وسيلة الكلمات لتكبيل الروح. وكما أن توماس لا يمتلك وصفة للقصيدة/ الشعر فإن كثيرين حاولوا امتلاك هذه الوصفة ليتوصلوا لتعريف الشعر لكنهم فشلوا فشلا ذريعا في نهاية المطاف، لذلك أرى أنه من الأفضل أن نترك لأنفسنا مساحة ما نستمتع فيها بالشعر الشعر بعيدا عن النظريات والتنظيرات التي لا مكان لها سوى في أمهات الكتب.علينا ألا نرهق عقولنا ومنطقنا في رحلة بحث عن تعريف للشعر، عاد كل من ذهب فيها بخفيّ حنين.
٭ ٭ ٭
يقول الشاعر الألماني يواخيم سارتوريوس إن القصيدة الجيدة هي نوع من الظهور والتجلي، بارقة، والشاعر يصير منخطفا ومأخوذا وهو يرى تفاصيل العالم، وحركته متمظهرة في القصيدة. يواخيم هذا كان يتجنب وباستمرار أن يطغى لديه واقع الكلمات أو الواقع اللغوي على الواقع الفيزيقي، وهو يقصد بهذا عدم تحول الكلمة إلى بديل عن الحياة.
٭ ٭ ٭
ثَمَّةَ أشياء يَعيشُ الشَّاعرُ طُوالَ حياتهِ يَبحث عنها ويُفتش بكلِّ مَا وُهِبَ من حيلةٍ عنها في كلِّ زاويةٍ وركنٍ، ولا يَلجأُ الشاعر إلى البحث عن تلك الأشياء إلا لِيُحقِّقَ معها أْو بها مُتْعته الخاصة، ولكي تُشعرهُ بوجوده الفعليّ لا الهامشيّ والاسْتعاريّ. بالطبع لا يُحاول الشاعرُ أنْ يَعْثرَ على هذه الأشياء والإمساك بها لِيَضِنَ بها على الآخرين.. لكنَّه يحاول أنْ تلحقَ بهم كما تَلحقُ بسواهْ. فالشاعرُ ـ نتيجة لزيادةِ إحساسه عن الآخرين كما هو معروف ـ يَحسُّ ويَهْتمُّ بغيره أكثر من اهتمامه بنفسه أحيانا.
٭ ٭ ٭
ثمة نصوص كثيرة نُجهد أنفسنا في البحث والتفتيش عما فيها من خلْق وإبداع، غير أن مسعانا غالبا ما يبوء بالفشل الذريع. كذلك ثمة على الشاطئ الآخر نصوص كثيرة ـ أيضا ـ تفوح إبداعا وشاعرية، ويكفيك فقط أن تقترب منها حتى تتأكد من ذلك.
٭ ٭ ٭
إذا نحينا جانبا القواعد الشعرية المتعارف عليها ووضعها الأقدمون، نجد أن كل شاعر في العصر الحديث أو الأحدث يرى الشعر من منظوره هو قابلا أو رافضا وجهات النظر الأخرى. وهكذا يحاول كل شاعر أن يبني عالمه الشعري، وفقا لقواعد يضعها هو بنفسه وأطر يسمح لنفسه بالحركة داخلها تبعا لرؤيته الجمالية وفكرته المسبقة عن الشعر.
٭ ٭ ٭
نهاية أقول: في اعتقادي أن الشعر لم يخلق أبدا للنخب، ولا للطبقات الأرقى في السُّلّم المجتمعي، التي بدورها تحولت نبضات أفئدتها إلى عدادات تُحصي كمّ الثروات ومقدارها فقط.
إنما جُعل الشعر في الأساس للبسطاء الذين يقتاتون، طول حياتهم، على مشاعرهم وأحاسيسهم عوضا عن متع الحياة الأخرى.
كاتب مصري