نتصور اليوم، أن الحديث عن فكرة نقاء النوع الأدبي وطهرانيته، في ظل الهُجنة التي أصابت، ليس مجرد الظواهر الأدبية وحسب، وإنما شتى مناحي الحياة، قد أصبح ضربا من الماضي. فالأكيد أننا نسير اليوم أدبيا، على غرار الجنس البشري، نحو أحادية النوع؛ ذلك أن التداخل الأجناسي، في مجال الأدب، وعلى عكس ما كان مذاعا ومشاعا في نظرية الأنواع الأدبية سابقا، أضحى يشوش، بقدر غير يسير من التعتيم، على الحدود المنتصبة بين الشعر والنثر.
هذا الأمر يقودنا إلى العودة إلى ما طرحه المنظر الفرنسي جيرار جينيت، في كتابه «مدخل لجامع النص» (ترجمة عبد الرحمن أيوب – دار الشؤون الثقافية العامة)، من فتوحات جديدة في نظرية الأدب، بعد اقتراحه لتصور أدبي جديد، أو بالأحرى بعد اقتراحه لجنس أدبي بديل، يقوض نظرية الأجناس الأدبية ونقائها ، يتعلق الأمر بمصطلح «جامع النص»، وهو مصطلح يشير إلى النص العابر للأجناس، على حد تعبير الناقد عبد علي حسن في إحدى مقالاته التي خصصها للتمييز بين مصطلحي: «جامع النص» و«العمل المفتوح»، درءا لأي التباسات كائنة وممكنة.
إن مصطلح «جامع النص/ الجامع النصي/ جامع النسج» هو البديل الذي اقترحه جيرار جينيت، للتقسيم الذي اقترحه أرسطو منذ زمن طويل للحقل الأدبي، الذي اختزل الأدب في ثلاثة أنماط أساسية « صنفت تحتها جميع الأجناس والأنواع الأدبية: الغنائي، والملحمي، والدرامي» (جيرار جينيت)، لذلك فجينيت يعلن منذ مقدمة هذا الكتاب أنه سيسعى من خلال هذا المشروع إلى « تفكيك هذه الثلاثية المزعجة»، ذلك أن الآثار الأدبية منذ القدم خضعت لمفهوم الأجناس التقليدية، وقد أعطى لذلك مثالا بالإلياذة ؛ ومع ذلك حاولت بعض الآثار الأدبية لاحقا التخلــــص من هذا التخندق، كالكوميديا الإلهية لدانتي تمثيلا لا حصرا. وبناء على ذلك يخلص جيرار جينيت إلى أن مشروع ما بعد الأجناس الأدبية، الذي دعا إليه من خلال فكرة (جامع النص)، يشكل بدوره جنسا أدبيا، يقول: «نستطيع أن نقول بطريقة أبسط، إن المزج بين الأجناس، أو الاستخفاف بها، يمثل في حد ذاته جنسا من الأجناس».
والسرد بوصفه نمطا نثريا أضحى، كما يُقر بذلك معظم الدارسين، فعلا ينسل إلى كل الخطابات البشرية، عالمةً كانتْ أم شفهية
إذن، لم يعد في الأدب الآن ما يمكنه أن يفصل بين الأنواع الأدبية، شعرا كانت أم نثرا. إن الشعر والنثر اليوم ( في الكثير من النصوص الأدبية)، أصبحا يتوالجان في بعضهما، تواصلا وتفاصلا، بشكل لافت، بحيث لم يعد المبدع المقبل على مغامرة الكتابة بالمعنى الجينيتي إن صح القول، يعبأ بالتصنيفات القديمة، بقدر ما صار ينشغل، بانفراط شديد، بخبرة النص أو العمل، لدرجة أنه، بهذه الآثام التصنيفية أو التجنيسية، أخذ يشوش على العلاقة المفترضة، في الميثاق الذي يجمع بينه وبين القارئ، بزرعه لعبارات تجنيسية جديدة، من مثل، «نص» أو «نصوص» أو «تخييل» إلى غير ذلك من المصطلحات، إلى درجة أنها تحولت بسرعة فائقة، إلى علامة ملازمة، لجل العناوين المثبتة على أغلفة الكتب الإبداعية. وبذلك تحولت معظم الآثار الأدبية، إلى آثار يلج، فيها، النثر في الشعر، والشعر في النثر، كما يلج الليل في النهار، والنهار في الليل، بشكل لائق وبديع أحيانا، وبافتعال ساذج ومقيت في الكثير من الأحيان.
والسرد بوصفه نمطا نثريا أضحى، كما يُقر بذلك معظم الدارسين، فعلا ينسل إلى كل الخطابات البشرية، عالمةً كانتْ أم شفهية، يقول رولان بارث «فالسرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة ـ شفوية كانت أم مكتوبة- والصورة ثابتة كانت أم متحركة، والإيماء، مثلما يمكن أن يحتمله خليط منظم من هذه المواد. والسرد حاضر في الأسطورة وفي الحكاية الخرافية، وفي الحكاية على لسان الحيوانات، وفي الخرافة وفي الأقصوصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والبانتوميم، واللوحة المرسومة، وفي النقش على الزجاج وفي السينما الكومكس، والخبر الصحافي التافه، وفي المحادثة، وفضلا عن ذلك فإن السرد بأشكاله اللانهائية تقريبا حاضر في كل الأزمنة وفي كل المجتمعات. فهو يبدأ مع تاريخ البشرية ذاته، ولا يوجد أي شعب بدون سرد». إن للسرد جاذبية كبيرة ناجمة بالأساس من كونه، كما يقول بول ريكور، هو الوسيط الفعلي بين الذات ووجودها. لقد أصبح السرد في وقتنا الراهن، باعتباره أسلوبا نثريا، أسلوبا جديدا للشعر كذلك، بل إنه من النادر الآن أن نعثر على مصطلح وضع «في كل الصلصات كما هو الحال بالنسبة إلى مصطلح سردي» (دينيس فارسي). والشعر، في هذه الحالة، أي الحالة التي يكون فيها مستقبلا لا وافدا، يجعل نهره يتجاوز المجرى والحدود نحو الأراضي الخفيضة للنثر، وهو ما حصل مع قصيدة النثر في الربع الأخير من القرن العشرين. إن الحوار الذي قد ينشأ بين الشعر(المستقبل)، والسرد (الوافد)، قد تأجج بشكل لافت، مع صعود مؤشر «قصيدة النثر»، ، ذلك أن هذه القصيدة ، يمكنها «أن تحكي وبطول نفس»، كما يقول الكاتب المغربي جمال بوطيب.
٭ شاعر وناقد مغربي
لعيئة النشر والكاتب
المقال الذي يسلط الضوء على قضية ما دون المساس بالأمثلة لا يعتبر مقالا بل خبراً مطولا يفتقد كثيرا من عناصر الكتابة التي تهدف للفائدة والامتاع
ملاحظتان في هذه العجالة:
أولا، يقول الكاتب ساردا أو شارحا: /وبذلك تحولت معظم الآثار الأدبية، إلى آثار يلج، فيها، النثر في الشعر، والشعر في النثر، كما يلج الليل في النهار، والنهار في الليل، بشكل لائق وبديع أحيانا، وبافتعال ساذج ومقيت في الكثير من الأحيان/ .. أتساءل هنا، يا ترى: لماذا اكتفى الكاتب بإيراد عين المجاز القرآني «إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل»، ولم يقل، علاوةً عليه، إن النص القرآني نفسه لَخيرُ مثال على ما يصطلح عليه جيرار جينيت بـ«جامع النص» أو «الجامع النصي» أو «جامع النسج»، لأنه /أي النص القرآني/ يجمع من حيث أسلوبه الفريد والمتفرِّد بين كل التقسيمات النوعية التي اقترحها أرسطو منذ زمن طويل للحقل الأدبي /من الجنس الغنائي، والجنس الملحمي، والجنس الدرامي/، ولأنه /أي النص القرآني/ يجمع كذلك حتى بين أكثر من كل هذه الأجناس الأدبية، وعلى الأخص تلك «الأجناس الأدبية» المتعارَف عليها في الأدب العالمي الحديث وما بعد الحديث.. !!
/للكلام بقية/..
/بقية الكلام/..
ثانيا، من بين إشكالات الترجمة الحرفية، أو المتقاعسة حتى، أن يفضي الإشكال المعني، في جملة ما يفضي، إلى التعبير المتناقض أو التعبير اللامعقول /واللامعقول جدا حتى/، وإلا فكيف يُعقل الفحوى /أو المدلول/ من النص حين يترجم الكاتب /أو من نقل عنه/ ترجمة حرفية، أو ترجمة متقاعسة، قولَ رولان بارث بأن «السرد يمكن أن تحتمله اللغة المنطوقة، شفوية كانت أم مكتوبة»،
وذلك استنادا إلى النص الفرنسي:
Le récit peut être porté par un langage articulé, parlé ou écrit
أو حتى استنادا إلى النص الإنكليزي:
The narrative is able to be carried by articulated language, spoken or written
أو حتى استنادا إلى النص الألماني، بقدر ما يتعلق الأمر به كذلك؟؟..