إن تطور الفن بصفة عامة، هو جزء من تطور الإنسان في علاقته بالطبيعة عبر وسيط رمزي (اللغة، الرسم، الرقص، الموسيقى). ويمكن تقسيم أنماط الفنون إلى قسمين باعتبار منطلقاتها. فنون زمانية وأخرى مكانية. وتضم الفنون الزمانية، الموسيقى والفنون التي مادتها الكلمة. فيما الفنون المكانية هي التي تأخذ حيزها في المكان، وهو ما يسمى بالفنون التشكيلية/البصرية: الرسم، النحت العمارة، وفن الزخرفة.
والشعر واحد من أهم الفنون التي تستدرج كل أدوات الفنون الأخرى إلى رحابها بغية الإفادة منها. ففي الشعر نجد الموسيقى كما نجد الرسم والتشكيل واللون، ما دفع النقاد إلى اعتباره تشكيلا زمانيا ونفسيا، من جهة اعتماده على صور استعارية مجردة في الخيال، وكذا على تناغم الأصوات وتداخل الألوان ببعضها، في قالب كمي ومقيسي عماده الوزن، وقالب نفسي أوسع يتبنى الإيقاع والصورة قصد تفجير الوجدان العاطفي، وما يعتمل في داخل النفس، وأيضا تشكيلا مكانيا من جهة حيز الكتابة (السواد والبياض) أي من خلال الحيز الذي يحتله شكل القصيدة وقالبها على الصفحة.
واستطاع الشاعر في الشعر التفعيلي (الحر) أن ينفض غبار القدسية عن الوزن والقافية، ليتحرر بإرادة وجرأة أقل ما يقال عنهما، أنهما كانتا انفجارا في الأنساق العروضية الخليلية التقليدية، وثورة أمبريقية في أحد الثوابت المطلقة في الشعر العربي، من جهة،، وفي مفهومه من جهة ثانية. لقد تم تعويض الوزن التقليدي بالبنية الإيقاعية على أساس أن الإيقاع أوسع من العروض (الإيقاع أكبر الدوال بتعبير هنري ميشونيك) وأن هذا الأخير ما هو إلا عنصر دال واحد داخل بنية من العناصر الإيقاعية الدالة. وعليه فإن رواد هذا الاتجاه الجديد جعلوا فاعلية الممارسة النقدية تعيد النظر في آلياتها، وذلك بتفجيرهم لمنطق المركز الشعري الثابت الذي يمثله حدود الشعر ومعاييره، حيث أضحى للعيار البصري دور كبير في استقبال الشعر وتلقيه. في الشعر الحر يتلاشى هيكل القصيدة العمودية، الذي يعتمد على نظام البيت الشعري، الذي يتألف من شطرين متساويين، إذ في تشكيل القصيدة العمودية، بصريا، «يبدو نهر من الفراغ أو البياض بين المحورين. وكأن ذلك الفراغ في القصيدة الكلاسيكية العلامة الفارقة بين الشعر والنثر» (عبد العزيز المقالح) وهو- الشعر الحر- بذلك يختلق لنفسه تشكيلا جديدا لفضاء نصه الخارجي. هذا التشكيل سيخضع بالأساس إلى حركة النفس الداخلية في البداية، ثم إلى علم الدلالة- السيميولوجيا- حيث سيغدو التشكيل ضرورة فنية لها معناها ودلالتها في صياغة المعنى العام لفضاء النص الداخلي والخارجي، وقول ما تعجز اللغة عن قوله.
المد والجزر الذي يمارسه عراك السواد مع البياض، في الشعر الجديد، يعطي أشكالا هندسية ومعمارية متماوجة، وهي أشكال مكانية ـ خارجية بالأساس، وخاضعة بالضرورة لحركة الذات وانسيابية الموقف العاطفي.
ويرى الناقد محمد بنيس بخصوص هذا الصراع ما بين الأسود والأبيض الذي فرض وجوده كقائم موضوعي بالقصيدة المعاصرة «إن الشاعر المعاصر يواجه الخطوط (اللون الأسود) بالقلق نفسه الذي يواجه به الفراغ (اللون الأبيض)، وهذا الصراع الخارجي لا يمكن أن يكون إلا انعكاسا مباشرا وغير مباشر للصراع الداخلي الذي يعانيه». ويمكن النظر إلى هذه الظاهرة من زاوية التوتر والقلق النفسيين حينا، ومن خلال لعبة شد الحبل ما بين الكلام والصمت، السواد والبياض، الكتابة والفراغ، الخاضعة بالأساس لحركة الذات حينا آخر. هذا المد والجزر، الكر والفر الذي اختار إطار الورقة البيضاء كفضاء له سيفجر مظاهر تشكيلية عديدة في الشعر الحر لمواجهة سيمترية البيت التقليدي، التي أصبحت تقص جناح الخيال لدى الشاعر، علما بأن عملية اكتساح البياض للسواد، الفراغ للكتابة، الصمت للكلام ستغدو، في بعض اللحظات الشعرية، كلاما تعجز اللغة والصورة الشعرية عن التلفظ به، الشيء الذي يعني أن الشاعر المعاصر ترك باروده ومداده واختط أشكالا أخرى لمعاركه، وفق حركة يده وحاجاتها التي تقوده إلى مآلات مجهولة.
حركة اليد في الشعر الجديد حركة محمومة، تنطق بالسواد وتصمت بالبياض. إن المد والجزر الذي يمارسه عراك السواد مع البياض، في الشعر الجديد، يعطي أشكالا هندسية ومعمارية متماوجة، وهي أشكال مكانية ـ خارجية بالأساس، وخاضعة بالضرورة لحركة الذات وانسيابية الموقف العاطفي (الدفقة الشعورية) الذي ينتهي بالجزر والبياض كلما استنفد الانفعال طاقته، كما يقول كوهن «فبياض هو العلامة الطباعية للوقفة أو السكوت. وعليه علامة، إذ غياب الحروف يرمز بالطبع إلى غياب الصوت». إن هذا المد والجز، يضعنا أمام أنواع عديدة من التشكيل الشعري نجملها في ما يلي:
1- تشكيل الانسياب الملتوي.
2- تشكيل الفقرة.
3- تشكيل الصمت.
في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن الموقف الدرامي، هو أيضا يهندس أشكالا معمارية داخلية غير واضحة، ولا تظهر للعين المجردة.. أشكالا تنسجم وبناء الأفكار وتدرجها، وكذا بناء اللوحات داخل الصورة الشعرية. وهي هندسة معمارية زمانية ـ داخلية، أي نفسية تمارسها الحركية النصية عن وعي حينا، وعن غير وعي حينا آخر، استجابة للحظة الانفعال والتوتر، ناسجة بذلك معمارا أو رسما يشكل بنيات ولوحات تنهض بدلالات إضافية، على المتلقي أن يتموقع بذكاء لاستكشافها. نذكر من بين أهم هذه الأشكال:
1 ـ تشكيل الصورة، وضمنه مظهر الدرامية وكذا مظهر النمو.
2 – تشكيل الإيقاع.
٭ شاعر وناقد مغربي