الشعر والتناص

في الشعر الجديد تكون موقف يناقض المواقف السالفة في الماضي. لقد كانت مسألة ضرورة الاستجابة لدواعي العصر ولمقتضيات التطوير، بمباركة منطق المعاصرة ضرورة حتمية، بل الأكثر من هذا لقد تجاوزت الحداثة هذه الضرورة عبر صوغ رؤية جديدة للذات في علاقتها بالوجود، وكذا في موقفها منه، رؤية في إمكانها أن تضمن للشاعر تفرده وتميزه.
وبذلك وبشكل موضوعي تغيرت آليات التعبير الشعري وتحررت من معيارية القصيدة التقليدية وهياكلها. أما الصورة الشعرية كعنصر من عناصر هذا التطور، فقد أصبحت صورة شاملة غير جزئية تستحوذ على كل المسافة في النسيج التخييلي للنص، كما أصبحت اللغة سحر الجمال فيها، عبر اختراق المألوف في العلاقات النمطية بين الكلمات وكذا اختلاق علاقات جديدة. لقد أضحت لهذا الشكل الجديد طرق جديدة في التعبير والصياغة، تراوحت بين استلهام التجارب الماضية وتفكيكها قصد إعادة بنائها من جديد في صور آثر أحمد الطريسي أعراب أن يسميها بالصورة ـ النموذج، من جهة، واقتناص لحظات شعرية مستحيلة قصد استشراق المستقبل ومكاشفة المجهول فيه، ويسمي الدارس نفسه هذا النوع من الصور بالصورة ـ الرؤيا، من جهة أخرى.
في النمط الأول ينهض الحوار بين الراهن والماضي، وهو نمط للمقايسة، فيه نقيس تجارب الراهن بالماضي، أما الثاني فهو حوار ما بين الراهن والمستقبل. إنه نمط نبوئي يتشوف أبدا للمجهول، وفيه يصل الشعر درجة عالية من الشفافية والكشف. ولئن كانت الصورة – النموذج نمطا شعريا يحاول اقتفاء أثر التجارب النموذجية التي مضت قصد مساءلتها وتحيينها عبر تفكيكها وإعادة صياغتها من جديد وفق دواعي العصر الراهن بغية الاستفادة منها، فإن هذه العودة تبدو ضرورية وحتمية، عن قصد أو غير قصد، ليس في الشعر وحده وإنما في كل الأجناس الأدبية وكل النصوص الأخرى. إن النص هو مجموعة من الحوارات الناشئة بينه والخارج/ الواقع، ومجموعة من النصوص التي سبقته. فالنص الأدبي ومنه الشعري «له هويته، كما لكل شيء هويته، وهو بذلك ليس نصا سياسيا، أو اجتماعيا، وإن كان يحمل دلالات سياسية وسيكولوجية واجتماعية. وهو إذ يحمل هذه الدلالات يتيح لنا أن نقرأها أكثرمن قراءة. ولكن ليس لنص، حين تتيح لنا هويته مثل هذه القراءات أو حين يحيلنا إلى مراجعة العدة، أن يسقط كأدبي: فتغيب هويته في ما سواه الذي نعادله به» (يمنى العيد).

النص الأدبي بصفة عامة لا يأتينا من عدم، وإنما هو عملية تشييد وبناء على أنقاض نصوص أخرى أدبية، وسياسية واجتماعية.

إن النص الشعري ينطلق أولا من الواقع ـ الخارج، وفق رؤية معينة قصد تكثيف هذا المرجع والانتقال به من المعطى إلى المتخيل، الشيء الذي يثبت حقيقة كبرى، وهي أن أي نص كيفما كان نوعه إلا وله خارجه ومرجعيته. نستنتج أن النص الأدبي بصفة عامة لا يأتينا من عدم، وإنما هو عملية تشييد وبناء على أنقاض نصوص أخرى أدبية، وسياسية واجتماعية. وهنا لا بد أن أشير إلى أن ظاهرة تقاطع النص الأدبي ومنه النص الشعري مع مجموعة من النصوص الأخرى مسألة قديمة جدا، تمت الإشارة إليها في تراثنا العربي بالتضمين أو الاقتباس. وعموما فإنه لا يمكن تصور نص ما ينطلق من الصفر ويولد من الفراغ والعدم، بل إن عملية اكتساب الموهبة الشعرية نفسها تخضع بالضرورة للقراءة والحفظ، ثم النسيان مثلما الطرس كما يقول ابن خلدون. أما بخصوص المفهوم الجديد للظاهرة فإن الخلفية المعرفية التي قام عليها كانت المحدد الأساسي لطبيعة التعامل ـ إبداعا وقراءة- مع هذا الأسلوب الفني الجديد «فالخطاب الشعري إذن يتناسل ويتفمصل مع الخطاب الفكري بشكل خارق، حدودهما هي اللاحدود، على اعتبار أن النص الشعري ـ أو الروائي- تتداخل فيه نصوص أخرى تعمل، ضمن صيرورتها العامة، على نسج «تداخل نصي» لا يستجيب للتعامل التقليدي، الدوغمائي، في القراءة (نور الدين أفاية ـ الهوية والاختلاف)
يذهب الظن إلى أن الباحث ميخائيل باختين هو من كان وراء ظهور نظرية التناص، في حين قام بتطويرها كل من جوليا كريستيفا ورولان بارت. إن العمل الأدبي عند هؤلاء ليس عملا مركزيا ومطلقا، وإنما هو انبلاج أدبي على أنقاض مجموعة من النصوص، وإعادة إنتاج لها عبر كولاج متقن وإن كان هذا قد يتم مع بعض من التعديل والإضافة، بعد أن تغير الكتابة هوية وانسجام النصوص السابقة لها. تقول جوليا كريستيفا «كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى»، لأن كل مركز سياسي أو ثقافي ومنه الأدبي يبقى شيئا وهميا تتعين مساءلته وخلخلته عبر عملية التناص التي لا تؤمن سوى بالتعدد والصراع والاختلاف، التي «أثبت أن أي نص هو عبارة عن نسيج من أصوات آتية من هنا وهناك. من الشعر ومن الكتب المقدسة ومن لغات الحياة اليومية… وأن أي نص يمكن أن يقرأ قراءات متعددة».
وقد نعثر بشكل مواز لنظرية التناص هاته على تأويل سيميائي آخر عند السيميائي بورس، لهذه العملية اللانهائية من الهدم والبناء لمعاني ودلالات متجددة عبر مفهومي «المؤولة» Interpretent و«السيميوزيس»Semiosis، أي السيرورة الدلالية اللامتناهية. في نظرية التناص إذن هدم لقولة «العبقرية الفردية» التي لا تخضع لمنطق العقل والتي لا تؤمن كذلك سوى بالحدوس والمنقبية والإبداع المطلق. وأيضا في هذه النظرية نسف لمقولة «المركزية المطلقة» في الفلسفة الأوروبية الحديثة. ويمكن تقسيم التناص إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ التناص التطابقي: ويكشف عن تطابق وتشابه النصين بشكل كبير، أي أن النص الثاني يأخذ من الأول بدون أن يغير الخصوصية الفنية والجمالية للنص الأول. وهو ما يسمى أيضا بالنص ـ النسخة.
2 ـ التناص الانفصالي: وفيه يتقاطع النص الثاني في جوانب وينفصل عنه في جوانب وينفصل عنه في جوانب جمالية ودلالية عديدة، والنص الثاني في هذه الحالة يعلن حربه وتدميره لمواطن الهشاشة في النص الأول.
3 ـ التناص ـ النفي: وفيه يذوب النص الأول في النص الثاني جماليا ودلاليا لدرجة يصعب فيها تحديد الفوارق، فنيا، وجماليا، ودلاليا بين النصين.
خارج هذه التقسيمات، كما هو شائع في بعض الكتابات الإبداعية، نخرج تلقائيا من التناص إلى التّلاص (اللصوصية)، أو «التّماص» بمعنى الامتصاص الكلي للنص الغائب بطريقة هي أقرب إلى السرقة مرة أخرى.

٭ شاعر وناقد مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    تعليقا على ما ورد أسفل عنوان (الشعر والتناص) الفذلكة تحت غطاء الضبابية اللغوية، لن تكون إلا اصطياد في المياه العكرة،

    بغض النظر عن نوع الأدب للمنتج اللغوي، وهذا ليس شعر،

    فالسرقة من اللغات الأخرى ونقلها إلى لغتك ليس تناص أو حداثة،

    بل هو نشر الضبابية اللغوية عن عمد وقصد، تؤدي إلى موت اللغة في أجواء العولمة والإقتصاد الإلكتروني، شاء من شاء وأبى من أبى، سيكون مجرم وليس مبدع بحق لغته،

    فهذه تطبيق عملي لمفهوم ثقافة الأنا أولاً ومن بعدي الطوفان، في دولة الحداثة، من وجهة نظري على الأقل.??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية