تُعَدُّ المصادر الأدبية والفنية جزءا أساسيا من مصادر التاريخ، ذلك أن منهجية التأريخ العلمية تقتضي أن يطلع المؤرخ على أبرز المصادر الأدبية في العصر أو المَصْر (القُطر) موضع الدراسة، ليتعرف على صورة الحدث التاريخي كما تجلت في الإبداعات المختلفة، ولأن الأدب والفنون هما أحد معايير قياس مدى التقدم والرقي الحضاري في الحقبة الزمنية المدروسة، ولأنهما أيضا يعبران عن المظهر الخارجي للمجتمع، وكذلك المزاج والذوق العام السائدين، فالهدف تصوير المجتمع أو الحقبة الزمنية من جوانبها كافة، ومن أجل إيضاح رؤية تاريخية مكتملة لدى القارئ.
وقد رأينا المؤرخين المسلمين القدامى يستشهدون بالشعر جنباً إلى جنب مع ذكر مروياتهم الإخبارية، على قناعة منهم بأن الشعر إن لم يكن مرآة للحدث التاريخي؛ فإنه سيكون شاهدا عليها، ونكتشف من خلاله البعد النفسي الفردي، وموقف الشاعر من الحدث، الذي يعبر أيضا عن البعد النفسي الجمعي. وبالطبع فإن البعد الأدبي لا يقتصر على الشعر فقط، بل يشمل الخطب الملقاة، والكتب المرسلة، والحوارات البليغة التي زخرت بها كتب السرديات التاريخية.
فمن المهم النظر إلى دور الشعر والشعراء في الصراع بين المسلمين والمشركين في زمن الرسول (صلى الله عليه وسلم) فعلى سبيل المثال، كان للشعراء المشركين دور في تأجيج العداوة، والنيل من المسلمين، والدليل على ذلك موقف الشاعر اليهودي كعب بن الأشرف، الذي كان له حصن مسمىً باسمه، وهو أحد رؤوس بني النضير، فلما هُزِم كفار مكة في بدر، رثى قتلاهم بقصائد حارة، ثم ارتحل إلى مكة، ليحرّض زعماء قريش على الانتقام لقتلاهم، وقد تحفظ المؤرخون المسلمون على شعره، فلم يذكروا إلا نتفات ونثيرات له، فهو لا يستحق ـ في رأيهم – أن تستعاد أشعاره، حيث سعى ابن الأشرف إلى جمع كلمة اليهود، لمحاربة المسلمين، وراح يقول قصائد يستهزئ فيها بالمسلمين، ويتغزل بزوجاتهم وبناتهم، فلم يجد الرسول مفراً إلا انتداب جماعة من المسلمين، على رأسهم محمد بن سلمة الأوسي، فاحتالوا على كعب، وأنزلوه من حصنه، وقتلوه، في عمل عسكري ناجح، فقد كان كعب شديد الخطر بشعره وشخصه على المسلمين، فهو وإن كان يهوديا، إلا أنه كان مسموع الكلمة من العرب، لأنه من أصول عربية تعود إلى قبيلة طيء، وله صلات قوية وتأثير كبير على بني قريظة، بالإضافة إلى قبائل الطائف ومكة. وبمجرد مقتله، خاف اليهود وارتعبوا من بأس المسلمين، والتزموا بالعهود مع الرسول.
فما كعب وشعره إلا الوجه القبيح للأدب، عندما يكون بوقا للكفار، محرضا على قتال المسلمين، فلا يصلح تفاوض أو نصح معه، فلن يرتدع عن غيه وفجوره. ذلك أن الشعر كان جاريا على ألسنة، يتغنون به في لياليهم وأمسياتهم، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما سمعه عمر بن الخطاب وهو يتعسس أحوال الناس ليلا، حيث أنصت لامرأة تنشد:
فوالله لولا الله تُخشى عواقبه لزلزل من هذا السرير جوانبه
فاستفسر عمر (رضي الله عنه) من ابنته حفصة عن الفترة التي لا تطيق فيها المرأة فراق زوجها، فأجابته أربعة أشهر (وفي روايات أخرى ثلاثة أو ستة أشهر) فأرسل عمر إلى قادة الجيوش والثغور أن يسمحوا للمجاهدين المسلمين بالعودة إلى زوجاتهم وفق هذه الفترة المعلومة، وليحدثوا أهلهم أيضا بأخبار الانتصارات والفتوحات. فكما كان الشعر شاهدا على الأحداث، ووسيلة للسمر والإمتاع، فهو يأتي في الموقف السابق زفرة حارة، تعبر عن أشواق الزوجة، وخشيتها من عقاب الله.
وإذا وصلنا إلى حقبة الخلافة العباسية، فإننا نجد خبر الوالي العباسي داوود بن عيسى، وقد اتسعت ولاية المدينة في عهده لتشمل مكة والطائف واليمن واليمامة، وصار واليها مسؤولا عن قوافل الحج، وقد عُرِف داوود بالشدة والحزم، ضد بقايا الأمويين، وغيرهم من العائلات والرؤوس ذات المطامح السياسية، ولذا نجده يترنم بهذين البيتين وهو يخطب في أهل المدينة، عندما قفل عائدا من الحج:
حتى يبيد قبيلة فقبيلة ويعضّ كل مثقف بالهام
ويقمن ربات الخدور حواسرا يمسحن عرض ذوائب الأيتام
والدلالة تحمل تهديدا، وهي تأتي ضمن الصراع بين العباسيين والأمويين، الذي جرت فيه دماء كثيرة، وهنا صار الشعر تهديدا، كي يترنم به الناس فلا يثورون، بل إن الشعر حضر في الرسائل المتبادلة بين الخليفة العباسي أبو العباس السفاح، وعبد الله بن الحسن، حيث بلغ الأول أن ابني الثاني محمد وإبراهيم يعدّان للثورة على بني العباس، فختم السفاح رسالته لعبد الله بهذا البيت:
أريد حياته ويريـد قتلي عذيرك من خليلك من مرادِ
فردّ عليه عبد الله بن الحسن برسالة لبقة، نافيا فيها هذه التهمة، موردا فيها أبياتا رقيقة وهي:
وكيف يريد ذاك وأنت منه بمنزلة النياط من فؤادِ
وكيف يريد ذاك وأنت منه وزندك حين يقدح من زنادِ
وكيف يريد ذاك وأنت منه وأنت لهاشم رأسٌ وهادِ
فهدأت نفس أبي العباس، ولجأ إلى سياسة حكيمة، مع الهاشميين، ومنع ثوراتهم. وبغض النظر عن سياق الرسالتين، فإن الملمح الأبرز فيهما؛ تلك البلاغة العالية التي نلمسها، ما بين نثر وشعر، وحكمة ورفق، ولباقة وتهذيب، وكيف أن أهل المدينة وخلفاء بني العباس حافظوا على رقي ذائقتهم، وسمو بلاغتهم.
فمن المهم الوعي بأن الآداب عامة، والشعر خاصة، كلها مصادر ينبغي على المؤرخ الاستعانة بها في تأريخه للحقبة التاريخية، غير مقتصر على مصادر التاريخ التقليدية، وما فيها من أخبار وروايات، ولذا نقول إننا في أشد الحاجة لدراسة التاريخ الحضاري للمدينة المنورة، وأيضا لبقية المدن الإسلامية الكبرى، جنبا إلى جنب مع التاريخ السياسي الإخباري، بل ربما يكون التاريخ الحضاري هو الأهم بالنسبة إلينا، في ضوء الهجمات المتتالية على الحضارة الإسلامية من قبل المستشرقين ومن تابعهم، الذين قدموا تاريخ الإسلام على أنه تاريخ قتل ودماء وصراعات وحروب، وتغافلوا عن عطاء المسلمين الحضاري.
كاتب مصري
فعلا……. ولأن التأريخ في كثير من الأحيان يكتبه المنتصرون، تبقى الشواهد الشعرية والأدبية ضرورية لعمل المحققين فيما بعد، وقد تساعد حتى في إعادة تصويب بعض الروايات التاريخية، والأمثلة موجودة وكثيرة.