يُنسب إلى الشاعر السوري الكبير محمد سليمان الأحمد (1905-1981)، الذي اشتُهر أكثر بلقب «بدوي الجبل»، أنه أغضب كوكب الشرق أم كلثوم لأنها رغبت في غناء قصيدته «شقراء»، على أن تستبدل المفردة بـ»سمراء» أينما وردت، فاعتذر الشاعر؛ ولم تفلح الوساطات فتمسك بموقفه، لأنه استند على اعتبار رآه جوهرياً: أنّ القصيدة أوحت بها امرأة سويسرية شقراء، والأمانة تقتضي ردّ الحقّ إلى صاحبته!
قد يرى البعض تعنتاً في قرار الشاعر، خاصة وأنه بذلك حرم عشاق الغناء وعشاق الشعر في آن معاً من عمل مشترك كان ربما سيصبح تحفة فنية؛ وقد يرى البعض الآخر، وهذه السطور في عداد هؤلاء، أنّ الأمر يتجاوز التعنت والعناد إلى مستوى احترام الأصل الأدبي إذا جرى تلحينه وتحويله إلى أغنية؛ ولن نعدم فريقاً ثالثاً (لعله أكثر حرصاً على التكتم مقابل الإعراب عن رأي قد يُعتبر سفاهة، وإنْ خجولة خفيفة، بحقّ كوكب الشرق) يساجل بأنّ الشاعر شاء التدخّل في عادة أم كلثوم لجهة تغيير القصائد، أو حتى دمج قصيدة بأخرى.
الموضوع أكثر تعقيداً في واقع الأمر، وهو غنيّ تماماً وبالغ الأهمية ويتجاوز بكثير هذه التجربة بين الرحابنة وبدوي الجبل، أو امتناعها بين الأخير وأمّ كلثوم؛ لأنه يبدأ من، وقد لا ينتهي عند، أصعدة العلاقة الغامضة الخافية بين الشعر والموسيقى
.. إلا إذا كان الزمان قد ليّن عريكة الشاعر في هذا اليقين، لأنّ ما رفضه مع أم كلثوم في مطلع الخمسينيات؛ وافق عليه في مطالع الستينيات، ولكن مع فيروز والرحابنة، في قصيدة «خالقة» التي صارت تحفة شعرية وغنائية خالدة. ولقد استبعد الرحابنة الـ13 بيتاً التالية من الأغنية:
طيوبها في زيارات الرؤى نزلت/ من مقلتيّ على أصفى القوارير
كأنّ همسك في ريّاه وشوشة/ دار النسيم بها بين الأزاهير
لو كنتِ في جنّة الفردوس واحدة/ من حورها لتجلىّ الله للحور
وكيف تشكين من حبّي غوايته/ وأنت كوّنت تفكيري وتعبيري
وهل تريدين روحي هدأةً وونى/ فكيف أنشأتِ روحي من أعاصير؟
ألفتُ نفسي على ما صغتِ جوهرها/ يا غربتي عند تحويري وتغييري!
كبّرتُ للطلعة النشوى أسبّحها/ أكان لله أم للحسن تكبيري
آثامك الخفرات البيض لو جليت/ لطور موسى لندّت ذروة الطور
كأنّها أقحوانات منضّرة/ بمُخْصِبٍ عبق الريحان ممطور
يا نجمة تختفي حينا وتشرق لي/ حينا أفانين تعريف وتنكير
لقد هجرت أخاك الفجر وانتبهت/ شمس الصباح على أنّات مهجور
من موطن النّور هذا الحسن أعرفه/ حلو الشمائل قدسيّ الأسارير
لا تجزعي من مقادير مخبّأة/ حَنَا يدلّلنا ظلمُ المقادير
وإذا جاز للبعض اعتماد تفسير رقابي، دينيّ غالباً، خلف استبعاد بعض الأبيات، فإنّ غالبية معاني الأبيات المستبعَدة لا تعكس أيّ هاجس «تنقيحي» أو «تهذيبي»؛ وفي الآن ذاته لا يرى الثقاة في الموسيقى والتلحين أيّ موجبات إيقاعية أو لغوية تستدعي غياب ذرى تعبيرية مثل « كأنّ همسك في ريّاه وشوشة»، أو «آثامك الخفرات البيض»، أو ّشمس الصباح على أنّات مهجور»…
غير أنّ الموضوع أكثر تعقيداً في واقع الأمر، وهو غنيّ تماماً وبالغ الأهمية ويتجاوز بكثير هذه التجربة بين الرحابنة وبدوي الجبل، أو امتناعها بين الأخير وأمّ كلثوم؛ لأنه يبدأ من، وقد لا ينتهي عند، أصعدة العلاقة الغامضة الخافية بين الشعر والموسيقى. وتلك صلات لا تكفّ عن اكتساب المزيد من جوانب التعقيد في ثقافتنا بصفة خاصة، منذ أنّ قالت العرب «مِقود الشعر الغناء»، وجزم حسان بن ثابت في بيت شهير: «تغنّ في كل شعر أنت قائلُه/ إنّ الغناءَ لهذا الشعر مضمارُ». خذوا، في مثال آخر ساطع، تجربة شاعر سوري كبير آخر هو نزار قباني، حيث أنّ قصائده التي تحوّلت إلى أغنيات ليست عديدة ومتنوّعة في ما يخصّ الموضوعات والأشكال، فحسب؛ بل هي أيضاً عابرة للأجيال، إذا صحّ التعبير. ثمة، على سبيل المثال، «قارئة الفنجان» التي غنّاها عبد الحليم حافظ؛ وثمة، في المثال الثاني المختلف، تلك القصيدة الفاتنة التي غنّتها فيروز «لا تسألوني ما اسمه حبيبي».
وبصرف النظر عن الاختلاف الطبيعي في معايير الذوق وأنساق التذوّق بين زمان وزمان وجيل وجيل، فإنّ من الصعب القول إنّ متذوِّق نجاة الصغيرة في «أيظنّ» و»ماذا أقول له»، يتذوّق بمعايير وأنساق قريبة أو متماثلة شعر الشاعر ذاته في أغنية أصالة نصري «إغضب». كذلك الحال في قصيدة «أصبح عندي الآن بندقية» التي غنّتها أم كلثوم عشيّة هزيمة 1967، وقصيدة «القدس» المعاصرة بصوت لطيفة وكاظم الساهر. ولكن، بالعودة إلى الرحابنة أيضاً، لم يكن بغير مغزى عميق أنّ الأخوين عاصي ومنصور، وهما شاعران من الرأس حتى أخمص القدمين، وجدا صعوبة في هضم كامل قصيدة «لا تسألوني…»؛ فاضُطرّا إلى حذف البيت التالي: «زقّ العبير، إنْ حطمتموه/ غرقتُمُ بعاطرٍ سكيب»؛ والبيت التالي: «لا تبحثوا عنه هنا بصدري/ تركتُه يجري مع الغروب»؛ وعدّلا: «وصدره… ونحره… كفاكم/ فلن أبوح باسمه حبيبي»، إلى «لا تسألوني ما اسمه، كفاكم/ فلن أبوح باسمه حبيبي». لقد حذف الرحبانيان، أو بدّلا لأسباب متباينة كما لا يخفى، ولكنهما فعلا ذلك لأنّ الموسيقى بدت أضيق من العبارة، أو لأنّ العبارة لاحت أكثر نضارة (وجسارة!) من أن تلتقطها الموسيقى.
فيُستعاد السؤال العتيق إياه: أيهما مِقود الآخر، إذن: الشعر أم الغناء؟
إنّ لعلاقة بين كاتب الأغاني ( الشاعر ) والفنان تشبه العلاقة بين كاتب الرّواية والمخرج.غالبًا ما تحصل بينهما خلافات فنيّة….فلا غرو أنْ يتمسّك شاعر الجبل بموقفه الحريص على كلماته…ولا عجب أنْ تتمسك كوكب الشرق بموقفها لانتقاء كلمات لأغانيها…من جهة أخرى : أودّ الإشارة إلى أنّ منزل السّيدة أمّ كلثوم في القاهرة؛ الواقع في الزمالك/ شارع أبو الفدا ؛ بعدما تحوّل إلى فندق؛ سمّوا غرفه على أسماء أغاني أمّ كلثوم.فهذه غرفة ألف ليلة وليلة وتلك غرفة يامسهرني.وهناك غرفة أمل حياتي وهنالك غرفة القلب يعشق كلّ جميل…وهكذا.وحينما دخلته أعجبت بالفكرة.
بصراحة مقال دمث لطيف رائع.شكرًا أخي صبحي على هذا القلم البارع.
مقالة ممتعة ومفيدة وتذكرنا بالتغيير الذي حدث على بيت شعري من قصيدة (عش أنت) للأخطل الصغير بشارة الخوري لحنها وغناها فريد الأطرش ، ونص البيت هكذا :
وحياة عينك وهي عندي … مثلما القرآن عندك
اتفق الملحن والمطرب فريد الأطرش مع الشاعر على استبدال كلمة القرآن بكلمة الإيمان ، ربما خوفا من حساسية لفظ القرآن في موضع وما قد يثيره من تأويلات وبخاصة ان الشاعر مسيحي والمعشوقة مسلمة