ليست أرخبيلات الشعر منزاحة عن أشياء العالم، لأنها العالم ذاته، وبصيغته الأكثر حضورا. فما من موجود في فضاءات الكون، إلا ويمتلك وجوده «الآخر» في فضاءات القول الشعري، سوى أن جاهزية القول الشعري للحضور، تبدو أكثر تعقيدا من الجاهزية التي تتمتع بها أشياء العالم، لبعد المسافة الفاصلة بين معايشة الحدث، بشكل مباشر في الحياة العامة، وتحويل المعايشة ذاتها إلى نص. فالقتل المادي والرمزي – على سبيل المثال لا الحصر – يدب إليك من كل حدب وصوب، بالواضح والمرموز، دون أن تأذن له أنت بذلك، أو أن تمتلك ربما القدرة على تغيير وجهته. غير أن الإيقاع به في شباك القصيدة، لا يكون بالضرورة طوع إشارة القول، ما لم تتوافر شروطه ومقتضياته.
إن هوى الشعر يتمثل في استدراجه لأشياء العالم من أجل تفكيكها، بغية الكشف عن هويتها المتخفية في ما تتظاهر هي بنسجه من علاقات، ثم إن «ما يتخفى» عادة، هو الطريدة المستهدفة والمشتهاة من قبل جوارح الحرف وكواسره. ذلك أن عملية التفكيك تنصب هنا على تلك الحلقات الحياتية، التي يأخذ بعضها برقاب بعض، فلا نكاد نلمح من تداخلها وتشابكها سوى ما يتعارف عليه بـ»السياق». هذا الإطار الفولاذي الذي تحكم إكراهاته قبضتها على الذات، مفوتة عليها فرصة رؤية الفاعل المؤثر في إنتاجه، الذي يمكن اعتباره بمثابة «المحل» الأساسي، الجدير بالرؤية والرؤيا. كما يمكن اعتباره المكان السري الذي تمسك فيه اليد الخفية بخيوط المصير الفردي والجماعي، إنه ومن هذا المنطلق» الحيز الدلالي « الذي لم يحن بعد أوان رؤيته، نتيجة تواريه خلف ظل السياق.
يتعلق الأمر هنا، بالتساؤل عن مركز الثقل في ترسيمة الكتابة الشعرية، الذي تنجذب إليه الرؤية المتمكنة من إوالياتها، بوصفه مسكن القول المفقود، والمؤجل مؤقتا، إلى حين اهتداء عين الكتابة إليه.
ومن المؤكد، أن مفهوم المسكن الملازم لتوصيف الرحم الذي تتشكل فيه الكتابة الشعرية، يظل غائما ومفرطا في تجريديته والتباسه، بالنظر لتعدد أوجهه، التي تجعله قابلا للانفتاح على مستويات متنوعة ومتباينة، من مستويات التأويل الفلسفي والجمالي. وفي اعتقادنا أنها خاصية جد ضرورية، من شأنها تحرير دلالته، وإبقائها خارج أي تقنين نهائي، قد يؤدي في حالة التكريس إلى هندسة ترسيمة ثابتة ومعلومة، قد تحول مسكننا الرمزي إلى ملكية عقارية لا تخلو من بؤس الابتذال. إذ خارج كل تقنين أهوج، يمكن معاينة جوهر المسكن المسيج بأسئلته، الذي بوسع الكائن أن يتعرف في رحابه على ذاته وهي تراوح بين فضاء العالم، وفضاء القصيدة.
وفي اعتقادنا أن هذه المراوحة المثقلة والمترعة بإشكالياتها الفلسفية، تظل غائبة تماما لدى الكثير من «الانتهاكات النقدية» التي تختزل الكتابة الشعرية في معادلات مسكوكة، تفتقر إلى الحد الأدنى من الدفق المعرفي، مع اقتناعنا المسبق، باستحالة عجز أي مقاربة ومهما علا شأنها عن الإحاطة بغايات الشعر التي لا تكف أطيافه عن التردد على مداخل الوجود بغية الفوز بها. فالغاية عموما، لا تعدو أن تكون هي أيضا، حجابا لغايات أخرى غير معلنة، بسبب إمعانها في تنكرها، لذلك، والحالة هذه، سنكون مدعوين لتوريط الشعر ربما، في ما لا شأن له به من الغايات. كأن نعتبره مثلا المحفز الفعلي للذات، في تطلعها إلى ممارسة حضورها الأنطولوجي. ومما لا شك فيه أنه توريط، يقحم كلا من الشعر والذات، والسكن، والمراوحة، والغاية، في متاهات غائمة، تتنازعها نداءات الأرض والسماء. ما يجعلها في نهاية المطاف معلقة ما بين البين.
وهي الوضعية التي تشير بجلاء، إلى محنة الدلالة، التي تنوء بثقلها مفاهيم الكتابة الشعرية، والتي ليس للكائن سوى الدخول معها في ذلك الحوار الذي ليس لترسيمته هندسة ثابتة، أو شكل معلوم، بفعل المنافسة القوية القائمة بين الطبيعة واللغات المجازية والاستعارية، على إنجاز معجزة الخلق والتكوين. فالطبيعة مهما كانت متقدمة في خلق بدائعها وغرائبها، إلا أن الشعر يظل الأكثر إثارة في آلية اشتغاله بمتعة خلقه لبدائعه وغرائبه. باعتبار أن مخلوقاته طارئة تماما على مخلوقات الطبيعة.
وفي حالة ما إذا نحن سلمنا بأن الشعر ينكتب بكل ما يمتلكه الكائن من مقومات سيكولوجية وفكرية، وبصرف النظر عما يمكن أن يتخللها من إيجابيات أو سلبيات، فإن شرط الانعتاق، سيحتفظ بحضوره العالي، بالنظر لخصوصيته الإشراقية، التي تنفتح معها الذات على ما أصبح خلسة مدارا للرؤية والكشف.
ولأن ما يوجد في مفترق المجال غير الطبيعي، يظل مبدئيا مدعاة للإدهاش والتساؤل. فمن شأن جمالية التعبير اللغوي، تفعيلها للملكة التخييلية، لدى كل من الشاعر والمتلقي، من أجل أن يتألق كل على طريقته، في إبداع عوالم تنضاف إلى العوالم الواقعية والطبيعية. وهي في نهاية المطاف، عوالم تخييلية يتحقق إدراكها بصيغة حلمية، ضمن زمن مفارق، هو زمن اليقظة، وذلك هو مصدر فرادة وخصوصية القول الشعري، التي تتيح للذات فرصة تموضعها داخل زمن تركيبي ومضاعف، يتوحد فيه زمن الحلم المقبل إلينا من مسكن الشعر، بزمن الواقع الطبيعي الذي تضج به حركية المعيش. إنه الزمن الاستثنائي الذي يقع خارج إيقاعات الأزمنة المألوفة، حيث يظل التفاعل مع غرائب وعجائب الحياة الطبيعية، أمرا مندرجا ضمن ما هو طبيعي، باعتباره مؤطرا بقوانين المرجعيات الواقعية، عكس التفاعل مع الحياة التخييلية، التي تستضيفنا فيها جماليات اللغة الشعرية، والمستند إلى قوانين مغايرة، ستظل بفعل زئبقيتها والتباسها موضوع مقاربات مستفيضة، وغنية بتعدد مرجعياتها، سواء على المستوى الفكري أو الإبداعي، وذلك هو مصدر الإثارة والسحر، اللذين يتميز بهما القول الشعري، ما يسمح لنا بالتطرق من جديد، إلى ما سبقت الإشارة إليه بـ»إشكالية تحقيق الذات لحضورها الأنطولوجي» على المستوى الشعري، بموازاة ما يساورها من طموح دائم لتحقيقه عبر مسارات فكرية أو فنية محايثة، حيث نخلص للقول، إن تحقق هذا الهاجس، يظل مشروطا، بمفهوم آخر لا يقل تعقيدا، رغم ما يطاله من ابتذال، وهو مفهوم «الانعتاق» المتميز بفاعليته الاستثنائية، التي يحدث أن تكتسح مسامات الذات دون سابق إنذار، لتخلصها من العبودية التي تمارسها عليها كوابيس المعيش، فتحول دون رؤيتها لما يتخفى هناك.
والمراد بكوابيس المعيش، شبكة الإكراهات العدوانية، التي تحكم قبضتها على اختيارات الكائن، فلا يملك معها سوى الإذعان والخضوع القسري لتسلط تعاليمها. الشيء الذي يجعل من مفهوم «الانعتاق» مطلبا وجوديا، مثقلا بدلالته الشعرية والفلسفية، أي بوصفه مفهوما يحيل إلى أرقى ردود الفعل المناوئة لكل أصناف الاسترقاق المادي والرمزي، التي يعاني منها الوجود البشري ككل. علما بأنه مفهوم ينتمي إلى تلك المرجعيات المشتركة، التي تستند إليها الخطابات الفلسفية والشعرية العميقة، في بناء مقولاتها، إن قديما أو حديثا، فضلا عن إحالته على تلك المفاتيح الإجرائية، التي تهتدي بها القراءة إلى جوهر الخطاب.
وفي حالة ما إذا نحن سلمنا بأن الشعر ينكتب بكل ما يمتلكه الكائن من مقومات سيكولوجية وفكرية، وبصرف النظر عما يمكن أن يتخللها من إيجابيات أو سلبيات، فإن شرط الانعتاق، سيحتفظ بحضوره العالي، بالنظر لخصوصيته الإشراقية، التي تنفتح معها الذات على ما أصبح خلسة مدارا للرؤية والكشف. وهي خصوصية استثنائية، لا يفي بها منطوق الدلالة المعجمية، ولا منطوقها المؤطر بالثنائيات المانوية، أسوة بثنائية الجسد والروح، أو تلك المنخورة بفيروسات الأيديولوجيا.
شاعر وكاتب من المغرب