المتابع لسياسة الكيان الإسرائيلي في العقدين الأخيرين، وبالذات من بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؛ يلاحظ أن هذا الكيان، رغم التعهد الاستراتيجي الضمني الأمريكي بحمايته، أو بعبارة أكثر دقة؛ تضمين الاستراتيجيات الأمريكية، حماية أمن الكيان الاسرائيلي، بالتأثير كلي الفعالية للأذرع الصهيونية في السياسة الأمريكية، وفي صياغة الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة العربية وفي العالم؛ فهناك محاولة إسرائيلية معدة بعناية وتخطيط؛ للعمل على تعدد خياراتها، وتخليق وإيجاد عدة خيارات في المنطقة العربية وجوارها، وفي الساحة الدولية، سواء في الحاضر المزدحم بالتطورات والتحولات، أو مستقبلا في نتائج هذه التطورات والتحولات.
فهذا الكيان يبني، وبنى فعلا علاقة قوية وواسعة مع الاتحاد الروسي على جميع الصعد، ومع الصين في حقول متعددة، أهمها استثمار الصين في البنية التحتية في الموانئ (الإسرائيلية)، وفي حقول تقنية الاتصالات وفي التكنولوجيا العسكرية المتطورة، في استثمار معرفي تبادلي. هذه العلاقات بين (إسرائيل) وروسيا والصين مستمرة ومتطورة، رغم اعتراض الولايات المتحدة عليها ومنذ سنوات، لكنها ظلت في نمو مطرد، وفي تطور وتوسع مستمرين.
الساسة الإسرائيليون يعرفون تماما؛ أن أمريكا لا يمكن أن تظل تحمي كيانهم، بل هناك تطورات مستقبلية في الداخل الأمريكي، وفي العالم والمنطقة العربية وجوارها، وفي الداخل الإسرائيلي المهدد بالتفكك وبتراجع الكتلة الديموغرافية لصالح عرب فلسطين، داخل ما تسميه إسرائيل الخط الأخضر، بالنمو السكاني لفلسطيني الداخل وفلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، بالقياس لمحدودية النمو السكاني ليهود إسرائيل، رغم هجرات اليهود إليها، كما حدث سابقا عندما تفكك الاتحاد السوفييتي، والآن، هجرة يهود أوكرانيا بسبب الغزو الروسي لها؛ ستعمل، ولو بعد زمن، على تفكيك الارتباط الاستراتيجي القديم والحاضر بقوة وثبات إلى الآن؛ بين إسرائيل وأمريكا، حين تتأكد الأخيرة أن إسرائيل والتصدي لحمايتها صار مكلفا جدا، يثقل عليها وعلى مصالحها وسياساتها، وبالذات عندما تجبر على التراجع والانكفاء جزئيا، أي أن تكون، أو أن تستسلم وتعترف لذاتها؛ بأنها لم تعد كما كانت قبل عقود، وأن العالم هو الآخر لم يعد كما كان قبل عقود، أن تقر وترضخ مجبرة على أنها لم تعد تتحكم في مصائر العالم، كما كان عليه حالها في السابق.
وفي إجراءات استراتيجية استباقية، في احتواء وتوجيه التغييرات والتحولات المقبلة في المنطقة والعالم لصالح الكيان الإسرائيلي؛ عملت الأذرع الصهيونية في أمريكا على دفع الإدارة الامريكية، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية، بالتعاون مع إسرائيل وأدواتهما في المنطقة، على صناعة واقع جديد في المنطقة العربية، وأعني به عمليات التطبيع المجاني، مع الكيان العنصري المجرم، بفعل ما تمتلك هذه الأذرع من قوة وتأثير لجهة فرض طروحاتها على صانع الاستراتيجيات الأمريكية، إذ أن خبراء هذه الاستراتيجيات أغلبهم يهود ومتصهينون مثل، هنري كيسنجر.. لذا نلاحظ أن سياسة الكيان الإسرائيلي وبحماية الأذرع الصهيونية تركز وتُفعَل عدة خطوط متوازية، بتكتيك واستراتيجية معلومين، من أهمها وباختصار:
أولا: عمليات التطبيع مع هذا الكيان، سواء ما كان معلناً ورسمياً، أو ما يجري وراء الأبواب المغلقة، لكنه في المقابل معلوم لدى الشعوب العربية، إلا القليل منها الضال، ومن باع ضميره القومي والإسلامي والإنساني. هذا التطبيع، طعنة خنجر في قلب القضية الفلسطينية، وأؤكد في القلب وليس في أي مكان آخر من جسد فلسطين، بل هو، وفي التوازي الزمني والمكاني؛ طعنة في جسد الوطن العربي. بصرف النظر عما يقوله المطبعون؛ من فريات وما يصاحبها من سلوكيات مخاتلة؛ تكمن خطورته في جعل اسرائيل دولة طبيعية ومعترفا بها من أصحاب القضية، سواء الفلسطينيين أو العرب، وأقصد هنا النظام الرسمي العربي وليس الشعب العربي، والسلطة الفلسطينية حصرا، وليس الفلسطينيين المقاومين بشراسة وبضراوة وإبداع وابتكار يناسب كل مرحلة، حسب ظروفها ومتطلباتها، أعني متطلبات الكفاح والجهاد المشروع من أجل قضية عادلة تماما، ومشروعة تماما وقانونية بالكامل.
عمليات التطبيع مم الكيان الصهيوني، سواء ما كان معلناً ورسمياً، أو ما يجري وراء الأبواب المغلقة طعنة خنجر في قلب القضية الفلسطينية
ثانيا: تعمل إسرائيل الظل، أو الأصح تماما إسرائيل العميقة، سواء في إسرائيل، أو في أمريكا (منظمة إيباك) والغرب وحتى في روسيا (عائلة روتشيلد.. أو اخطبوط روتشيلد العملاق للمال والأعمال والإعلام)، وبحدود ما في الصين، وفي المنطقة العربية أيضا وبالذات في مصر والإمارات؛ على صناعة رأي عام عربي؛ يؤمن ويتقبل ويؤيد طروحات إسرائيل، سواء ما يخص وضع حل للقضية الفلسطينية، تمييع الحق الفلسطيني في الأرض والسيادة عليها، والآمال بغد أفضل بمواطنة في وطن محدد جغرافيا، ومعترف به دوليا، أو في حق إسرائيل في الوجود على حساب حق الفلسطينيين.. ولتمرير هذه الطروحات على الشعب العربي وعلى العالم؛ ارتفعت الأصوات في السنوات الأخيرة أكثر مما كانت عليه في السابق، التي تسوّق؛ أن اليهود كانوا قد تعرضوا للإبادة (المحرقة اليهودية، الهولوكوست) وأن هذه المحرقة يجب أن تدرس في المنطقة، حتى لا تتكرر المأساة مرة أخرى في الشرق الأوسط، كما حدث مؤخرا في بولندا، من عملية تطبيع ظل، شارك فيها مأجورون من عدة دول عربية، أكاديميين وإعلاميين وناشطين، بالإضافة إلى مشاركة وفد رسمي إماراتي. هذه السياسة الاسرائيلية كانت تجري منذ عقود، ولكنها كانت محدودة التأثير، ولم تنجح إلى الآن في إحراز أي تقدم على هذا الطريق، وعلى وجه الحصر والتخصيص في الدول العربية التي تطوق إسرائيل ولها معها اتفاقات سلام؛ الأردن ومصر. أما السلطة الفلسطينية فهي في واد من الناحية العملية والشعب العربي الفلسطيني المقاوم في واد آخر. عمليات تطبيع الظل هذه أشد خطورة من التطبيع العلني والرسمي، على مستقبل الحق القانوني والشرعي والإنساني لفلسطين الشعب والتاريخ والوطن.. لأنها وببساطة؛ تعمل على إيجاد كتلة مجتمعية متقبلة لها، وأقصد لوجودها على حساب تمييع حق الفلسطينيين في الوجود والحياة، في دولة مستقلة، توفر لها الأمن والسلام والنمو والتطور..
ثالثا: التعاون بين إسرائيل والاتحاد الروسي، تعاون عميق وشامل ومتين؛ وهذا التعاون لا ينفصل أبدا عن ترتيب ما، بصورة او بأخرى للعلاقة المستقبلية بين سوريا الأسد وإسرائيل. الملاحظ للعلاقة بين روسيا وإسرائيل، أو المتابع لها؛ تظهر له بصورة واضحة أنها علاقة لها بعد استراتيجي، بصرف النظر عما يقال خلاف هذا. على سبيل المثال؛ رغم التوتر الأخير بينهما بسبب تصريحات وزير الخارجية الروسي، لكنها عادت إلى ما كانت عليه بل أقوى، من الأدلة على ذلك، بعد هذا التوتر الذي تم امتصاص شدته، تحديدا بعد يومين ليس أكثر؛ هو القصف الإسرائيلي المستمر على مواقع للجيش السوري، ومؤخرا، على بعد ما من القواعد الروسية، سواء البحرية او الجوية، دون أن تحرك روسيا ساكنا.
رابعا: عمليات الحلحلة للصراعات العربية البينية، وأعني الصراعات داخل البلد العربي الواحد، أو النزاعات والخلافات بين بعض الدول العربية، السعودية والإمارات ومصر مثلا، مع دول الجوار العربي، تركيا وإيران، لا يمكن فصلها عما تم القول فيه أعلاه، بل إن هذه التحركات تقع في صلب العملية برمتها..
خامسا: النظام الرسمي العربي يعول كثيرا، على ما يجري؛ لتثبيته على كرسي الحكم، كطرف له فاعلية في إنضاج الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية والثقافية؛ لإنجاح تفكيك وحلحلة مشاكل المنطقة العربية، سواء ما كان منها في الداخل، بما فيها العلاقة المستقبلية مع (إسرائيل) أو مع الجوار العربي، حسب مسارات الحلول أعلاه؛ هي بالضد من مصالح الشعوب العربية طويلة الأجل، أي تتحول دول المنطقة العربية لأدوات للتنفيذ، وليس فاعلا مستقلا في الأحداث وتطوراتها، بما ينسجم مع مصالح الشعوب العربية وليس مصالح القوى الدولية وفي مقدمتها (إسرائيل) والمعني بهذا، أي بدور (اسرائيل)؛ هو أنها نقطة ارتكاز لتلك المصالح، بشرعنتها قانونيا وموضوعيا على أرض الواقع، بل هي حينها تكون صانعة للأحداث ومتحكمة فيها. هذه التطورات المستقبلية المخطط لها قبل زمن بعيد، لو قدر لها وصارت واقعا، لا سمح الله، على الأرض؛ سوف تكون منصات للنهب وسلب الإرادات، وتصبح القدرات والإمكانات الاقتصادية وغيرها الكثير، بدل أن تكون أذرعا عربية قوية لفرض شروط العرب من أجل إحقاق الحق العربي، سواء في فلسطين أو في بقية دول المنطقة العربية، أي تكون دولا مساهمة في صياغة المواقف الدولية، بعبارة أخرى لا يتم تهميشها كما جرى في السابق القريب وفي الحاضر المعيش. في النهاية أقول؛ إن الشعوب العربية وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني؛ ستقلب الطاولات السود في الغرف المظلمة على رؤوس دهاقنة الشر والشيطان.
*كاتب عراقي
شكرا وان شاء الله يتم ذلك – لا يمكن ان يبقى وضع على ما هو عليه للابد
لقد أبدعت بالتوصيف لك خالص التقدير