الشَلل على الطريقة اللبنانية: ميزانية افتراضية للحكومة وورقة «بيضاء» للرئاسة

إبراهيم نوار
حجم الخط
0

الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان قد تستمر لسنوات، ولن يمكن حلها بغير إرادة سياسية وطنية فوق إرادة الجماعات المستفيدة من استمرارها. وطالما أن للأزمة آليات تستفيد بواسطتها جماعات «سياسية- عسكرية» تسيطر على السوق والسياسة، فإن كسر نفوذ هذه الجماعات يمثل شرطا مسبقا لإصلاح الأوضاع في لبنان، وتطبيع العلاقات بين الدولة والاقتصاد والمجتمع، لكن تحقيق ذلك يبدو بعيد المنال بغير تعرض هذه الجماعات لصدمة كبرى. وقد تجلت أزمة لبنان في مظاهر درامية خلال السنوات الأخيرة، منها أن يعيش ببرلمان انتهت صلاحيته، أو من غير رئيس، أو من غير حكومة بشرعية نافذة، أو أن تمارس الحكومة أعمالها بدون ميزانية رسمية. كما تتجلى أزمته في استمرار عجزه عن تحقيق تغييرات ضرورية يتفق الكثيرون، بمن فيهم الفرقاء، على ضرورتها مثل إصلاح النظام المصرفي وإعادة المصداقية إلى مؤسساته، ومثل تحقيق اختراق في ملف مفاوضات استخراج الغاز من المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان في شرق البحر المتوسط، أو حتى البدء في العمل الفعلي في المناطق غير المتنازع عليها. ومع أن لبنان أنفق وقتا طويلا في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن الميزانية الجديدة والإصلاح المالي، للتوصل إلى اتفاق يؤهله للحصول على مساعدة مالية من الصندوق، فإن مجلس النواب ضرب عرض الحائط بما كان قد تم الاتفاق عليه بين الطرفين في نيسان/أبريل الماضي، وأقر ميزانية «افتراضية» على أساس افتراضات صورية لا علاقة لها بالواقع أولها قيمة الليرة، التي تمثل وحدة الحساب النقدي للبلاد.

توصية بوقف المساعدة

في الزيارة الأخيرة لوفد خبراء صندوق النقد الدولي إلى لبنان (19- 21 أيلول/سبتمبر) كان التقييم النهائي هو أن الاقتصاد اللبناني ما يزال في وضع سيئ جدا، وغير قادر على تحقيق الإصلاحات الضرورية اللازمة للخروج من الأزمة، وأن حالة من القلق وعدم اليقين تسيطر على الوضع بشكل عام. وبعد المناقشات التي أجراها الوفد مع القيادات البرلمانية والحكومية، تضمن التقرير النهائي المقدم إلى الصندوق توصية بعدم المضي قدما في مناقشة أي مساعدة مالية إلى لبنان ما لم تحدث تغيرات جوهرية، تتفق مع ما تم التوصل إليه في نيسان/أبريل الماضي. ومن ثم فإن إقرار مجلس النواب اللبناني لميزانية لا تتفق مع توصيات سابقة للصندوق من شأنه أن يوصد الباب فعليا أمام أي مساعدات اقتصادية أجنبية في الوقت الحاضر، بسبب استمرار التصنيف الائتماني السلبي للبنان. كما أن العجز عن اتخاذ قرارات من جانب الحكومة يزيد من تكلفة الأزمة ومخاطرها على لبنان واللبنانيين مع مرور الوقت. نافذة الأمل الوحيدة في موقف الصندوق بعد إقرار الميزانية الجديدة، هي أنه أبقى الباب مفتوحا على التواصل مع لبنان من أجل التوصل إلى برنامج للإصلاح المالي على الأسس التي تم تحديدها سابقا، وفي مقدمتها ضرورة إصلاح البنك المركزي، وإعادة هيكلة النظام المصرفي، وحماية ودائع صغار المودعين، وتوحيد سعر الصرف على أساس سعر «الصيرفة» الفعلي.
وكان لبنان قد طلب من الصندوق إجراء مساعدة في إطار برنامج تمويلي يغطي فترة 4 سنوات بقيمة 3 مليارات دولار تقريبا، لإعادة الاستقرار المالي والاقتصادي. وتم التوصل إلى اتفاق على مستوى الخبراء في 7 نيسان/أبريل من العام الحالي. وبسبب العجز في إرادة تحقيق الإصلاح، فإن الاقتصاد اللبناني يواجه نزيفا مستمرا عبر عن نفسه في انكماش حجم الاقتصاد بنسبة 40 في المئة عما كان عليه عام 2019 وتصاعد معدل التضخم السنوي فوق معدل 200 في المئة، وتبخر احتياطي العملات الأجنبية، وهبوط قيمة الليرة إلى الحضيض لتبلغ في أسوأ الأحوال 39 ألف ليرة للدولار الأمريكي. ومع انتعاش اقتصاد السوق السوداء، فإن الدولة أفسحت المجال لما يمكن أن نطلق عليه « ميليشيات اقتصادية» تعمل في كل مجالات التجارة والتمويل، لتعزيز مصالحها الخاصة على حساب مصالح لبنان ككل. وأدت سيطرة هذه الميليشيات إلى هبوط موارد الدولة، ومن ثم ضعف قدرتها على تمويل شراء القمح والوقود والسلع الأساسية، والعجز عن تقديم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وصيانة المرافق العامة. وقد وصلت الأمور إلى حالة شديدة السوء مع بدء السنة الدراسية، خصوصا على صعيد التعليم والسلع التموينية. ومن المتوقع أن تزيد الأمور سوءا مع قدوم فصل الشتاء.
ولا يرى خبراء الصندوق في ميزانية 2022 التي تم إقرارها أي فائدة عملية، لأنها أشبه ما تكون بميزانية «افتراضية» تتجاهل حقائق الواقع الاقتصادي والمالي. ويقترح الصندوق بدلا من ذلك أن تبدأ الحكومة مع البرلمان في إعداد ميزانية فعلية ذات مصداقية للسنة المالية 2023 تقوم على أساس مؤشرات واقعية، تتضمن أولا سعر صرف حقيقي، هو سعر «الصيرفة» وليس سعر «الدولار الجمركي» وهو السعر الذي حددته الدولة في الميزانية الجديدة بـ 15 ألف ليرة للدولار بدلا من 1500 قبل ذلك، وهو سعر يقل عن نصف السعر السائد في السوق في أحسن الأحوال. ويحذر الصندوق من خطورة تعدد أسعار الصرف وتأثيرها السيئ على المعاملات الاقتصادية، وعلى خطط الحكومة لزيادة الموارد من أجل ممارسة دورها الاقتصادي والاجتماعي. كما أن تعدد أسعار الصرف يمثل أيضا بوابة واسعة من بوابات الفساد الرسمي المنتشر في كل أركان الاقتصاد، وثغرة واسعة تتسرب منها موارد احتياطي العملات الأجنبية لدى البنك المركزي، حيث تحصل «الميليشيات المالية» على الدولار من الدولة بسعر رخيص، وتعيد بيعه في السوق، في صورة عينية «سلعية» أو «نقدية» بسعر أعلى بكثير.
كما أوضح خبراء الصندوق أن بناء الميزانية على أساس «سعر الصيرفة» لليرة يساعد على ضبط مؤشرات الاقتصاد الكلي وبرامج الحكومة، سواء للإنفاق أو جمع الإيرادات وأهمها الضرائب، وتسعير الخدمات الحكومية. وتضمنت ملاحظات خبراء الصندوق ضرورة حماية الودائع ووضع قواعد وضوابط للسحب النقدي. ونبه الخبراء إلى أن «قانون السرية المصرفية» الذي أقره البرلمان في تموز/يوليو الماضي، رغم ما فيه من إيجابيات، يعاني من ثغرات واسعة، تحول دون تطبيق القواعد والإجراءات لمكافحة غسيل الأموال، والجرائم المالية، والتهرب الضريبي، واستعادة الأصول المفقودة. وليس من المتوقع أن ينظر مجلس مديري الصندوق في أي طلب من لبنان للمساعدة المالية قبل البدء في تنفيذ الإجراءات التي تم الاتفاق عليها من قبل، ومنها إعادة هيكلة النظام المصرفي وإصلاحه جذريا.

خسائر المودعين

يبدأ الإصلاح الاقتصادي في لبنان من الإصلاح الكامل للبنك المركزي اللبناني وتدقيق حساباته، من أجل حصر الموارد الموجودة فعلا في مقابل الالتزامات المستحقة على النظام المصرفي للمودعين والحكومة. وقد أظهر فحص حسابات البنك المركزي في شهر حزيران/يونيو من العام الحالي أن قيمة الموجودات من العملات الأجنبية بلغت 11 مليار دولار فقط، إضافة إلى الموجودات من الذهب التي قدرت في ذلك الوقت بنحو 17 مليار دولار، لكنها تقل الآن عن ذلك نتيجة لهبوط أسعار الذهب بشدة خلال الأشهر الأخيرة. وفي مقابل ذلك تم تقدير الالتزامات المستحقة على البنك بالعملات الأجنبية بحوالي 104 مليارات دولار، منها 79 مليار دولار للمصارف المحلية. هذا يعني وجود فجوة في حسابات البنك تقدر بنحو 93 مليار دولار (بدون احتساب رصيد الذهب). وهناك خلاف بين الحكومة والبنك المركزي والمصارف المحلية بشأن حساب الأصول والخصوم لدى البنك، وكيفية توزيع أحمال الخسائر على الأطراف المختلفة.

الوضع الاقتصادي

قفز معدل التضخم السنوي إلى 200 في المئة عام 2022 بعد ارتفاع متواصل خلال العامين الماضيين، مسجلا 155 في المئة عام 2021 و85 في المئة عام 2020. ومع تدهور سعر الصرف، وانكماش الاقتصاد بنسبة النصف تقريبا، فإن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي قفزت إلى 361 في المئة في العام الماضي، وذلك طبقا لتقدير الحكومة اللبنانية، وهو ما يزيد عن ضعف ما كان عليه عام 2019. ويتوقع خبراء صندوق النقد الدولي أنه في حال تنفيذ التوصيات المتفق عليها، سيتمكن الاقتصاد من النمو على أساس مستقر نسبيا، بما يؤدي إلى إعادة جدولة الديون، بحيث ينخفض معدل الدين المحلي للناتج إلى 127 في المئة بنهاية العام الحالي، ويواصل الانخفاض تدريجيا في السنوات التالية حتى يصل إلى 100 من الناتج عام 2026.
وعلى صعيد العجز الخارجي فقد سجل الحساب الجاري عجزا بقيمة 3 مليارات دولار في عام 2021 بدون تغيير تقريبا عن العام السابق، وهو ما يعادل 10 في المئة من الناتج في حين أن النسبة الآمنة تبلغ 3 في المئة فقط. وكانت نسبة عجز الحساب الجاري إلى الناتج قد بلغت أقصاها عام 2019 مسجلة 20 في المئة. وحقق لبنان فائضا في الحساب الجاري لأول مرة في تاريخه في الشهر الأخير من العام الماضي، نتيجة مجموعة إجراءات اقتصادية قاسية تضمنت تخفيض الواردات السلعية بنسبة 30 في المئة، والتوقف عن سداد أقساط وفوائد الديون الخارجية المستحقة، في حين ساعدت تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج على زيادة الفائض. ومن المحتمل أن تؤدي هذه العوامل، بجانب استمرار الانكماش الاقتصادي إلى تضييق عجز الحساب الجاري في العام الحالي.

العجز عن سداد الدين الخارجي

ما تزال الحكومة اللبنانية حتى الآن عاجزة عن الاتفاق مع الدائنين على إعادة جدولة الديون المستحقة عليها، منذ توقفت عن سداد أصل «سندات أوروبية» استحقاق 9 اذار/مارس عام 2020. هذا الفشل في السداد أو الاتفاق على إعادة الجدولة ينسف أي احتمال للحصول على تمويل أجنبي من مؤسسات المال أو المصارف، طالما لم يحصل لبنان على شهادة صلاحية من صندوق النقد الدولي تؤهله للاقتراض أو إعادة جدولة الديون. وتقتصر موارد لبنان من العملة الصعبة حاليا على تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج، والمساعدات التي تأتي عبر قنوات التمويل التابعة للأمم المتحدة، إضافة إلى حصيلة الصادرات. ويصطدم أي احتمال للإصلاح في الوقت الحالي بعقبات سياسية كبيرة، أهمها عمق درجة الانقسام السياسي، وضعف قدرة حكومة نجيب ميقاتي على العمل، والشكوك التي تحيط القدرة على حسم انتخابات رئاسة الجمهورية.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية