غرناطة – من محمّد محمّد الخطابي: الشّاعر التشيلي الكبير نيكانور بارّا ضرب الرّقم القياسي في حصده للجوائز الأدبية خلال سنتين متتاليتين ، إذ بعد أن حصل على جائزة ‘سيرفانتيس’ في الآداب الإسبانية العام الفارط 2011، (125000 أورو) حصد هذا العام كذلك 2012 على جائزة’ بابلو نيرودا ‘ للشّعر الإيبيروأمريكي في بلده تشيلي، حيث تعتبر هذه الجائزة كمثيلتها سيرفانتيس الإسبانية أعلى تكريم أدبي تمنحه الحكومة التشيلية في مجال الإبداع الشعري في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية، وتبلغ قيمتها المادية حوالي 50.000أورو.
في كلتا الجائزتين أشاد أعضاء لجنتي التحكيم ‘بإسهام الشّاعر الوافر في إثراء وإغناء اللغة الشّعرية في أمريكا اللاتينية ،كما أشادوا بروح الشّاعر المرحة وسخريته المرّة ، ونظرته النقدية الثاقبة للمجتمع والحياة ‘وقال نيكانور بارّا في الحالتين ساخرا’ ليست هذه المرّة الأولى التي تمنح لي جائزة أدبية كبرى لا أستحقّها، أرجو أن تكون هذه هي الأخيرة وإلاّ سأكون مضطرّا بأن أتقدّم بشكوى ضد هؤلاء الذين يقومون بهذا الصنيع ‘ في إشارة إلى أعضاء لجان التحكيم.
يعتبر الشاعر نيكانور بارّا من أكبر شعراء تشيلي في العصر الحديث ، وهو يقف في مصاف كبار الكتاب والمبدعين في هذا البلد مثل بلديّته الشاعرة ‘غابرييلا ميسترال ‘ (التي كانت أوّل امرأة والوحيدة حتى الآن التي تفوز بجائزة نوبل في الآداب العالمية في أمريكا اللاتينية عام 1945)، و’بابلو نيرودا’، و’بيثينتي ويدوبرو’، و’غونثالو روخاس’، و’إيزابيل الليندي’، و’خورخي إدواردز’ وسواهم.
شاعر الأرباض الفقيرة
وقال بارّا: ‘إنني أشعر بدين كبير نحو الوطن الأمّ (عادة ما يطلق مثقفو أمريكا اللاتينية وبعض قاطنتها هذا النعت على اسبانيا) وقال: ‘إنني أرى هؤلاء الشعراء المعروفين بالبلاغة والتحذلق والتنميق اللفظي وكأنّهم جميعا متشابهون وهم يعدّون بذلك شاعرا واحدا’. يطالب بارّا إيلاء العناية بالشعراء الذين لا يقطنون الحواضرالكبرى، أو ما يسمّى بلغة الهنود من سكان تشيلي الأصليين ‘بشيان’. ويقول: ‘إنه ما زال مسلحا حتى أخمص قدميه لمناهضة ما يسمّى بالشعر المنمّق، أو ما يطلق عليه ‘باللغة الشعرية الخالصة’، وهو مقابل هذه اللغة يوثر أو يميل الى إستعمال الكلام اليومى المتداول بين الناس الذي يندرج تحت باب ما يسمّى بالسهل الممتنع، إذ يهمّه في المقام الأوّل ما يدور بين هؤلاء العامة من حوار، وما تخالجهم من هموم، وما تملأهم من آمال، وتحدوهم من رغبات وتطلّعات.
يحبّ الشاعر نيكانور بارّا أن يسمّي نفسه بشاعر الضواحي و الأرباض الفقيرة والأحياء الخلفية للمدينة،و كان صديقه الراحل الشاعر’غونسالو روخاس’قد عبّرعن إعجابه بنيكانور بارّا وبشعره، وقال عنه: ‘ انّه يعتبر من أكبر شعراء أمريكا اللاتينية، ويتميّز شعره بشكل خاص بالعنصر اللغوي الشفوي الدارج، وهو يقف بذلك مناهضا للشعر التقليدي الذي يراه موغلا في الرموز والشحوب والغموض،أو ما يسمّى بالشعر الأسود أو الميتافيزيقي’ وقال ‘روخاس’مازحا عندما فاز ‘بارّا’ في مناسبة أخرى بجائزة الملكة صوفيا للشّعر الإيبيروأمريكي منذ ما يقرب من عقدين من الزمان: ‘انّ هذه الجائزة الشعرية الكبرى تليق بنا نحن الإثنين خاصة ونحن ما زلنا في ريعان شباب الثمانين حولا’، (يبلغ الشاعر ‘نيكانوربارّا’ اليوم97 عاما).
ضدّ التيّار
وقال الشاعر ‘ نيكانور بارّا’ إنّ الشعراء الشباب سوف يأخذون العبرة من هذه الجائزة فكل شيء قد أصبح ينقل الى الضاحية أو الربض حتى الجوائز الكبرى (والغرابة أن كلمة ‘الربض’ بوضع اللام في آخرها المستعملة في تشيلي والأرجنتين وفي باقي بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى هي بنفس المعنى في اللغة العربية،إذ تنحدر هذه الكلمة من لغة الضاد).
ويقول ‘بارّا’ إننا في الشعر الجديد المتحرّر المناهض للشّعر التقليدي تسمع لنا أصوات متعدّدة ومتنوّعة، وليس صوتا واحدا متكرّرا، بمعنى أنّ الشاعر يغدو كاتبا دراميا، وكاتبا مسرحيا وليس شاعرا وحسب، كما أنه بهذا المعنى ليس شاعرا واعظا ولا مبشّرا.
ويعلّق الشاعر الاسباني ‘خورخي رودريغيس بادرون ‘مازحا: ‘انه من مفارقات الحياة أن يفوزنيكانور بارّا بهذا التكريم الكبير وهوالشاعر المناهض للشعر الكلاسيكي ، ويخشى أن يتحوّل بارّا بهذه الجائزة الى شاعر كلاسيكي بالفعل ، فقد كان يسبح دائما ضد التيار، إنه يتطلّع إلينا بمحيّاه المدبوغ وكأنهّ ملاكم قديم محترف . إنّ بعده عن الصرامة والجديّة يدنيه من روح السّخرية اللاذعة التي تميّز بها شعره السلس، وطبعه المرح في آن واحد، وإن شعر ما بعد الحداثة يسيرعكس كلّ ما هو سام ورفيع بحثا عن مواطن الهزل والتهكّم والإزدراء، وهكذا فلا شموخ الغناء الشّعري عند صديقه وبلديّه ‘بابلو نيرودا’، ولا مهارة ولا حذاقة خليله ‘فيسنتي ويدوبرو’ أمكنهما التأثير عليه وتغييرمساره و إتّجاهه الشعري،بل ظلّ موثرا وميّالا للتعبير التلقائي والعفوي البسيط للحياة الذي ربما قد إستوحاه من الشعر الانكليزي’.
إنبعاث
ويشيرالناقد الاسباني ‘غريغوريو سالفادور’ أنّ ‘بارّا’ يمثّل في الوقت الراهن إتجاها شعريا متمرّدا ومتجدّدا حيال الأشكال والأنماط الشعرية التقليدية المتوارثة الأخرى.
و قال الشاعر الاسباني الكبيرالراحل ‘خوسيه ييرّو’ إنه معجب بالالتزام الشّعري عند ‘بارّا’، إلاّ أنّ أسلوبه المناهض للشعر التقليدي لا يروقه في شيء، ‘إذ أن نقرض شعرا لا يشبه الشّعر لهو أمر لا أستسيغه ولا أفهمه’.
والشّاعر ‘بارّا’ سبق أن حصل على الجائزة الوطنية في الأدب التشيلي، وعلى الجائزة الشعرية ‘سانتياغو دي تشيلي’، وعلى الجائزة الدولية لكتّاب أمريكا اللاتينية، وعلى جائزة ‘خوان رولفو’ الأدبية، هذا بالاضافة الى حصوله على العديد من الجوائز الهامة الشعرية والادبية الاخرى داخل بلاده تشيلي وخارجها .
من أعمال ‘نيكانور بارّا’ ‘أغاني بدون عنوان ”قصائد، وقصائد مناهضة’، ‘العقبة الكأداء’، ‘قميص القوّة ‘أوراق بارّا’ (علما أن كلمة ‘بارّا’ وهي إسمه العائلي، تعني في اللغة الاسبانية الكرمة أو الدالية أو العريش).وقد نشرت مؤخرا أعماله الأدبية والشّعرية كاملة.
وننقل الى لغة الضّاد فيما يلي (من ترجمتي) إحدى قصائد بارّا، وهي بعنوان ‘إنبعاث’، يقول فيها :
ذات مرّة، في حديقة من حدائق نيويورك
أقبلت نحوي حمامة
لتموت تحت قدمي
إحتضرت بضع ثوان، ثمّ ماتت
إلاّ أنّ الذي حيّرني
وهو أمر لا يصدّق
أنّها عادت للانبعاث فورا
دون أن تمنحني وقتا للقيام بأيّ شئ
ثمّ انطلقت طائرة
كما لو أنّها لم تمت قطّ
من بعيد رنّت،أجراس نواقيس
ومكثت أنا،أحدّق النظر فيها مشدوها
وهي تحلّق في إتجاهات متعرّجة
بين مجسّمات المرمر
والبنايات الشامخات
مرّت بخلدي أشياء كثيرة
كان يوما من أيّام الخريف
ولكنّه بدا لي يوما ربيعيا رائعا،