بعد أشهر من عدم التوافق بين أحزاب الحكومة الإئتلافية الهولندية، تستعد هولندا لانتخابات برلمانية عامة في ظل الكثير من المتغيرات التي تهيمن عليها القضايا الشعبوية، تزامنا مع ظروف استثنائية وتطورات داخل البلاد وخارجها.
استحقاق دستوري
ومن المقرر إجراء الانتخابات في 22 نوفمبر /تشرين الثاني الحالي، في استحقاق دستوري سيكون له تأثير تحولي لاستبدال رئيس الوزراء الأطول خدمة في تاريخ البلاد، مارك روته، زعيم حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية، خاصة بعد إعلان قراره اعتزال السياسة بعد أن شغل منصب رئيس الوزراء لمدة 13 عاما.
يشار إلى أن استقالة روته، رافقتها مجموعة من الاستقالات لشخصيات سياسية أخرى شغلت العديد من المناصب البارزة في البلاد، الأمر الذي أحدث صدمة للمجتمع الهولندي، وأرسل إشارة أن النخب السياسية تدرك خطورة المرحلة المقبلة، لذلك ربما قررت الابتعاد عن المشهد السياسي حتى لا تتحمل أي مسؤولية.
عدم التوصل لاتفاق ضمن الحكومة الائتلافية، واستقالة القادة السياسيين، ترك المواطن الهولندي في حيرة من أمره بشأن عملية التصويت، حيث كانت الأمور أكثر استقرارا ووضوحا خلال السنوات الماضية.
الصراعات العسكرية
ومن الواضح أن الانتخابات الجديدة هي الأكثرإثارة للانقسام منذ سنوات عديدة، وأبرز موضوعاتها هي الهجرة وتكاليف المعيشة والإسكان وأسعار الطاقة والقدرة على حماية البلاد في ظل الصراعات العسكرية التي أصبحت على أعتاب أوروبا.
والواضح تركيز أغلب الأحزاب سيكون على القضايا التي تمس الحياة اليومية للمواطن الهولندي، مثل التضخم وتضاعف الأسعار وغيرها من القضايا الداخلية الملحة، حيث يدرك سياسيو الأحزاب أن المواطن سيفكر في المصلحة الشخصية أولا، وقبل كل شيء.
التحدي الآخر الذي ستواجهه الأحزاب السياسية هو طريقة تعاملها مع القضايا العالمية، خاصة ما يحدث في الشرق الأوسط. في الماضي، كان لوسائل الإعلام في كثير من الأحيان وجهة نظر واحدة فيما يتعلق بقضايا عديدة من دول العالم.
والآن أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة مهمة يستخدمها الناس البسطاء لإيصال صوتهم، ولها تأثير كبير في المجتمعات.
ومن المؤكد أن الصراع التاريخي في الشرق الأوسط والذي عاد لواجهة الأحداث مؤخرا، سيتم استغلاله من قبل بعض الأطراف لجذب الناخبين والتصويت لهم، كما حدث خلال الأزمة الدبلوماسية بين هولندا وتركيا قبيل الانتخابات التي جرت قبل عدة سنوات.
تآكل النظام العالمي
وفي ظل تآكل النظام العالمي القائم، تواجه هولندا صعوبات تتمثل في تغير الخريطة السياسية للعالم، خاصة مع انتشار الصراعات العسكرية في أماكن مختلفة من العالم، من أوكرانيا إلى القوقاز إلى الشرق الأوسط، مرورا في البلقان في قلب أوروبا.
يبدو أن المشكلة الأساسية تكمن في أسلوب الأحزاب السياسية، حيث تركيزهم ينصب على فترة الانتخابات وما يليها من 4 سنوات في السلطة، وهذا لا يكفي لمعالجة الأزمات، خاصة أن بعض الأزمات ليست جديدة، مثل مشكلة الإسكان، والحكومات المتتالية تعرف ذلك، فتجاهلت الموضوع واستمرت في بناء عدد أقل من المنازل التي تدعمها الدولة.
ومن هذا المنظور، فإن أغلب الوزارات تدار من كبار موظفيها، وليس من قبل الوزراء الجدد وتكتفي مهمتهم بمتابعة سير العمل فقط، لذلك نجد استقرارا نسبيا في طريقة العمل من حكومة لأخرى دون أي تغير جوهري في الإدارة.
دولة توافقية
الجدير بالذكر، يمكن اعتبار هولندا أنها دولة توافقية، تتميز السياسة والحكم الهولندي بالسعي المشترك للتوصل الى إجماع واسع النطاق حول القضايا المهمة، سواء داخل المجتمع السياسي أو المجتمع كلل.
وهذا يعكس عدم قدرة أي حزب هولندي على مدى 100 عام على تشكيل حكومة بمفرده، لأن تشكيل الحكومة يتطلب 76 مقعدا من أصل 150 مقعدا في البرلمان، لذلك ظلت هولندا دائما تحكمها الائتلافات.
ويتوقع المراقبون في هذه الانتخابات أن معظم الأحزاب لن تتمكن من تجاوز 20 في المئة من الأصوات، لذلك قد ننتظر عدة أشهر للوصول إلى حكومة إئتلافية أخرى جديدة بين الأحزاب الفائزة في الانتخابات.
ومن الواضح أن أحزاب يمين الوسط ويسار الوسط، التي رسمت مسار سياسات أوروبا الغربية بشكل عام، وهولندا بشكل خاص، لا تزال لديها فرص للوصول إلى السلطة مرة أخرى، وتحديداً لأن قسماً كبيراً من الناخبين يريدون حلولا لقضاياهم الخارجية عموما والداخلية تحديدا بالطريقة المعتادة ضمن القيم والمبادئ الأوروبية.
باحث في الشؤون الدولية