وصل الصراع على الغاز في حوض شرق البحر المتوسط إلى مفترق طرق بين الاتجاه إلى العسكرة وفرض المصالح بالقوة، وبين الرغبة في استخدام الدبلوماسية لتسوية النزاعات. وكان الشهر الماضي قد شهد ذروة في اتجاه عسكرة الصراع، كادت تؤدي إلى اشتباكات بين القوات التركية واليونانية، وشهد أيضا تطورات دبلوماسية بلغت ذروتها في اتصالات مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من قبل كل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والسكرتير العام لحلف الأطلنطي يانس ستولتينبرغ، وسط تهديدات بتوسيع نطاق العسكرة ليشمل دولا أخرى من خارج شرق المتوسط مثل فرنسا والإمارات.
ومن المتوقع أن يشهد الشهر الحالي عددا من التطورات المهمة، التي من شأنها أن تقرر مسار الصراع في الأجل القصير. ففي العاشر من الشهر الحالي، من المقرر أن تجتمع دول الاتحاد الأوروبي المتوسطية السبع بدعوة من فرنسا، لمناقشة النزاع بين تركيا وكل من اليونان وقبرص، العضوين في الاتحاد الأوروبي، بشأن حقوق التنقيب. وتطالب تركيا بنسبة 44 في المئة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.
ويدعو الاتحاد الأوروبي إلى حل النزاع مع تركيا عن طريق المفاوضات السلمية، لكنه في الوقت نفسه يهدد بفرض عقوبات عليها إذا لم تستجب للحوار. كذلك من المقرر في الشهر الحالي أن تستأنف إسرائيل وقبرص مفاوضاتهما لتسوية النزاع بشأن اقتسام إنتاج حقل أفروديت القبرصي، الذي توقفت أعمال تطويره، بعد أن وجهت إسرائيل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إنذارا للشركات الثلاث العاملة في الحقل (شل ونوبل إنرجي وديليك للحفر) بتجميد أعمال استخراج الغاز، حتى يتم تسوية النزاع مع الحكومة القبرصية. وتطالب إسرائيل بحصة تبلغ 10 في المئة من إنتاج الحقل، بدعوى أن جزءا منه يقع في المنطقة الاقتصادية الخالصة لها.
وفي بيروت تحاول الولايات المتحدة القيام بمهمة وساطة بين كل من إسرائيل ولبنان، لحل الخلاف بينهما بشأن ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، ومنح لبنان فرصة في الظروف الصعبة التي يمر بها، للبدء في استثمار ثرواته البحرية وأهمها الغاز الطبيعي.
ومن المفارقات العجيبة أن الصراع على ثروة النفط والغاز في شرق البحر المتوسط تحول من مجرد منافسة اقتصادية إلى تهديدات باستخدام القوة واستفزازت عسكرية، في الوقت الذي هبطت فيه أسعار الغاز إلى ما دون تكلفة الإنتاج، وتوقفت الشركات عن ضخ استثمارات جديدة، وتحركت خريطة توزيع النفوذ بين الشركات إلى وضع توازن جديد تشارك فيه الولايات المتحدة، وذلك بعد استحواذ شركة شيفرون على شركة نوبل إنرجي المثقلة بالديون والعاجزة عن الاستمرار. وتملك نوبل امتيازات للتنقيب عن النفط والغاز في كل من مصر وإسرائيل وقبرص، وستنتقل حقوقها إلى شيفرون. وبذلك فإن الخريطة الجديدة لتوزيع ثروة غاز شرق المتوسط أصبحت تضم شيفرون إلى جانب كل من إيني الإيطالية، وروسنفط الروسية التي تملك قطر حصة فيها، وشل البريطانية-الهولندية وبريتش بتروليوم وتوتال الفرنسية وشيفرون الأمريكية، إضافة إلى لاعبين صغار مثل مبادلة الإماراتية.
دخول الولايات المتحدة إلى ساحة الصراع على النفط والغاز في شرق المتوسط يستجيب أيضا لاعتبارات قانونية وسياسية واستراتيجية، بعد أن أقر الكونغرس الأمريكي في صيف العام الماضي قانون “الشراكة في الأمن والطاقة لمنطقة شرق البحر المتوسط” بهدف دعم التعاون الثلاثي بين كل من إسرائيل واليونان وقبرص. هذا القانون يوفر غطاء تشريعيا لحماية المصالح الأمريكية الاقتصادية والاستراتيجية في شرق البحر المتوسط، ويفتح الباب أمام الولايات المتحدة للعب دور أكبر في الصراع على الغاز، وهو ما يتناقض مع سياسة تخفيف وجودها العسكري في المنطقة.
غياب إطار إقليمي للتفاوض
يتجه اللاعبون في الصراع على غاز شرق المتوسط إلى إقامة محاور تتجاوز الخلافات الثنائية، بما يجعل قضايا النزاع ذات طابع معقد متعدد الأطراف. ويدور الصراع حاليا بين محور تركي يضم تركيا وحكومة طرابلس الليبية من ناحية، وبين محور يوناني-قبرصي-مصري تدعمه إسرائيل بشكل غير مباشر من ناحية أخرى. موضوع الصراع بين المحورين هو نقاط وخطوط ترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة لدول حوض شرق المتوسط. وعلى الرغم من أن الترسيم محكوم بقواعد القانون الدولي للبحار، إلا أن دول شرق المتوسط لم تشتق من ذلك القانون إطارا إقليميا، يمثل تفاهما مشتركا بينها بشأن قواعد الترسيم، خصوصا في المناطق البحرية التي تتأثر بوجود جزر أو كتل يابسة داخل البحر مثل جزر كريت ورودس وقبرص. ونظرا لأن مكامن الثروة في قيعان البحار، لا تعترف بقواعد ترسيم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة، إذ قد يمتد حقل واحد للغاز داخل منطقتين أو أكثر لدولتين أو لعدد من الدول، فإن أسلوب الحوار وليس الإجراءات العدائية هو السبيل لحل النزاعات بين الدول المتحضرة.
وعلى الرغم من أن تركيا واليونان تعلنان التزامهما بالقانون الدولي وبأسلوب الحوار، إلا أن الأفعال لا تتطابق دائما مع الأقوال، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي والمستشارة الألمانية والسكرتير العام لحلف الأطلنطي إلى التدخل لدى الرئيس التركي، لنزع فتيل أزمة عسكرية، كادت تؤدي إلى اشتباكات جوية وبحرية. ومع احتمال تكرار الاستفزازات العسكرية في منطقة واسعة من شرق المتوسط خلال الشهر الحالي، فإن قادة دول الاتحاد الأوروبي يجدون أنفسهم وجها لوجه أمام تحدي إيجاد وسيلة طويلة الأمد، لنزع فتيل الأزمة في شرق المتوسط. ومن الضروري أن تلعب قوة دولية محايدة وذات مصداقية دور الوسيط بين اليونان تركيا إذا فشلت المبادرة الحالية لسكرتير عام حلف الأطلنطي.
مشاريع النقل والتسويق
إن خريطة توزيع ثروات شرق المتوسط تظل في كل الأحوال محكومة بحيزها الجغرافي. ولن يتم تحقيق الاستثمار الامثل لهذه الموارد بدون اتفاق جماعي إقليمي، يضع أسس وقواعد الترسيم المشتقة من القانون الدولي في مواءمة مع المعطيات الإقليمية، إضافة للحاجة إلى اتفاقات ثنائية بين الدول المتجاورة في حدودها البحرية. لكن عملية تصريف الإنتاج وبيعه في الأسواق العالمية تتجاوز حدود تلك الخريطة، وتمتد إلى المزايا أو النواقص الجيوسياسية والتجارية لدول الحوض، وكذلك حسب مستوى ونطاق التعاون الإقليمي في مسائل مثل التمويل والنقل والمعالجة وغيرها.
ولتوضيح ذلك بمثال عملي نقول إن اكتشاف الغاز الطبيعي قبالة الشواطئ الإسرائيلية كان يمكن أن يفقد قيمته إذا فشلت إسرائيل في إيجاد مشترين للغاز المستخرج. وقد توقفت بالفعل عمليات تطوير حقلي تمار وليفياثان عندما عجزت الشركات العاملة عن توفير الاستثمارات اللازمة، ورفضت البنوك تقديم التمويل المطلوب. ولكن بعد أن استطاعت الشركات توفير عقدين لتصدير الغاز إلى كل من مصر والأردن بقيمة 30 مليار دولار، فإن البنوك استأنفت التمويل.
ويرتبط إنتاج غاز شرق المتوسط باستراتيجية الطاقة الأوروبية. وعلى الرغم من أن إسرائيل وجدت سوقا لإنتاجها في كل من مصر والأردن، فإن السوق الحقيقي لغاز شرق المتوسط هو دول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد على واردات النفط والغاز من روسيا والجزائر وليبيا والولايات المتحدة وغيرها إضافة إلى الإنتاج الأوروبي من النفط والغاز الذي يتركز في حقول بحر الشمال وفي الجرف القاري للنرويج. وتأمل دول الاتحاد أن يسهم غاز شرق المتوسط في تقليل اعتمادها على روسيا والولايات المتحدة ودول أوبيك.
وفي سياق هذه النظرة إلى الدور المستقبلي لغاز شرق المتوسط في استراتيجية الطاقة الأوروبية، تعمل دول الاتحاد بالمشاركة مع الولايات المتحدة على مد خط أنابيب لنقل الغاز من الحقول الإسرائيلية والقبرصية إلى اليونان ومنها إلى إيطاليا حيث يتم ربط إمدادات الغاز من شرق المتوسط بشبكة خطوط أنابيب الغاز الطبيعي الأوروبية، بطاقة تشغيلية تبلغ 10 مليارات متر مكعب سنويا إلى أوروبا بتكلفة تقدر حاليا بنحو 6 مليارات يورو. ويشك كثير من الخبراء في أن خط أنابيب شرق المتوسط سيرى النور بسبب التعقيدات الفنية والتمويلية، ولا تشترك مصر في هذا المشروع.
مركز إقليمي للغاز المسال في مصر
تتمتع مصر بميزة فريدة في صناعة الغاز بين دول شرق البحر المتوسط ألا وهي وجود محطتين كبيرتين على ساحل البحر المتوسط لإنتاج الغاز المسال، تشارك في ملكيتهما مع شركات ضخمة مثل إيني الإيطالية التي اشترت نصيب يونيون فينوسا الإسبانية في معامل الغاز المسال في دمياط، وشركة بريتش بتروليوم أكبر شريك في معامل الغاز المسال في إدكو. وتبلغ طاقة الإنتاج المجمعة لمعامل الغاز المسال الحالية حوالي 19 مليار متر مكعب سنويا، وهو ما يعادل طاقة خط نقل الغاز عبر البحر الأدرياتيكي.
ومن الممكن توسيع طاقة محطات إنتاج الغاز المسال في مصر بإضافة خطوط إنتاج جديدة. لكن المشكلة التي تواجهها هذه المحطات حاليا تتمثل في انخفاض الإنتاج والعمل بأقل من طاقتها، وذلك بسبب ضعف الأسعار في الأسواق العالمية بما فيها السوق الأوروبية، وشدة المزاحمة السعرية من الغاز الطبيعي الرخيص الذي يتدفق من روسيا، والغاز المسال قليل التكلفة القادم من قطر، وظهور منافس جديد يتمثل في الغاز المسال الأمريكي.
ولغرض تشجيع إقامة سوق إقليمية للغاز فقد تأسس في القاهرة في كانون الثاني/يناير من العام الماضي “منتدى الشرق الأوسط للغاز” الذي يضم مصر وإسرائيل والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية وقبرص واليونان وإيطاليا.
مشروع الربط الكهربائي الإسرائيلي
طورت إسرائيل مشروعا جديدا للربط الكهربائي يتكامل مع استراتيجية الطاقة الخضراء الأوروبية، عبر كابل بحري يمتد من إسرائيل إلى قبرص واليونان ثم يلتقي بشبكة توزيع الكهرباء الأوروبية. هذا المشروع يبدو مكملا لمشروع ديزرتيك الألماني الذي يبدأ من المغرب ويمتد إلى المشرق ليربط شبكات كهرباء الشرق الأوسط بشبكة الكهرباء الأوروبية. وفي سياق المشروع الإسرائيلي يجري حاليا تطوير إنتاج الطاقة الشمسية في الأردن، على أن تشتري إسرائيل حصة كبيرة منها، لزيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة محليا والتصدير إلى أوروبا. وقد تعاقدت إسرائيل بالفعل مع الأردن على ذلك. وفي حال تعثر تصدير الغاز فإن إسرائيل سيصبح بإمكانها إنشاء محطات للكهرباء تعمل بالغاز في الأردن، يتم استخدام إنتاجها في تغذية الكابل الكهربائي البحري إلى أوروبا.
الشركات تعيد تقييم السوق
تقدر هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية مخزون النفط والغاز في الحوض الشرقي للبحر المتوسط بحوالي 345 تريليون قدم مكعب من الغاز، أي ما يعادل 5 في المئة من الاحتياطي العالمي، وما يتجاوز كل احتياطي الولايات المتحدة من الغاز البالغ 308 تريليون قدم مكعب. بالإضافة إلى ذلك يحتوي الحوض على 3.4 مليار برميل من النفط الخام، وكميات غير محددة من الغازات البترولية السائلة. هذه الثروة الضخمة من الغاز كانت تنتظر من يعمل على التنقيب عنها واكتشافها واستخراجها وتصريفها في الأسواق العالمية. وكانت إسرائيل بادرت بتحقيق ذلك بعد أن طورت استراتيجية للتحول من دولة مستوردة للطاقة إلى دولة مصدرة. ومع ارتفاع أسعار الغاز في أوائل القرن الحالي، أعلنت إسرائيل عن اكتشاف حقلين للغاز في مياه المتوسط (تمار وليفياثان) ثم اكتشفت إيني الإيطالية أكبر حقول الغاز في المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر، وهو حقل ظهر في عام 2015. كما حققت ثلاث شركات من بينها شركة ديليك الإسرائيلية اكتشافا كبيرا في قبرص هو حقل أفروديت. ومن الملاحظ هنا أن شركة ديليك المتخصصة في عمليات الاستكشاف والحفر تلعب دورا رئيسيا في مناطق الامتيازات الإسرائيلية والقبرصية، ومن المرجح أن تلعب دورا مماثلا في المياه اليونانية عندما يتم تسوية النزاع الحالي بين تركيا واليونان وقبرص بشأن ترسيم الحدود الاقتصادية البحرية.
وتتميز المرحلة الحالية في مسار جهود التنقيب عن النفط والغاز بالهدوء النسبي في الاستثمارات، والتركيز على إعادة هيكلة أنشطة الشركات، وتعديل مراكز الاستثمار طبقا لمعدلات التكلفة والعائد، والاستحواذ على أنشطة فرعية أو صغيرة بقصد إعادة تنظيم الصناعة، ورفع معدلات الربحية في سوق يسيطر عليها الانخفاض في الطلب، وزيادة أعباء تأثير الاعتبارات البيئية حتى بالنسبة للتمويل.
وفي نهاية الأمر فإن غاز شرق المتوسط هو ثروة لا تستثمر إلا بالتعاون المشترك، في مراحل الاستخراج والإسالة والنقل لأسواق الاستهلاك بالأنابيب أو بالناقلات. ولذلك فإن سياسة المحاور والتحالفات العدائية، ستؤدي بالضرورة إلى تعطيل تطويرها، والتضحية بمصالح شعوب المنطقة في تنمية مواردها، وكذلك الإضرار بمصالح الاتحاد الأوروبي في تطوير استراتيجية طاقة مستقلة نسبيا عن الضغوط الروسية والأمريكية، بالإضافة إلى إضاعة فرص الاستثمار وتحقيق الربح للشركات، بعد أن هبطت قيمة هذه الثروة للرُّبع منذ بدأ الصراع عليها، بسبب ظروف السوق العالمية من صعوبات اقتصادية واستمرار الآثار السلبية لوباء فيروس كورونا المستجد.