الصراع مجددا على غور الاردن

حجم الخط
0

يُجهد أبو مازن نفسه في الاشهر الاخيرة في اقناع وزير الخارجية الامريكي جون كيري بالضغط على اسرائيل لقبول خطوط 1967 لتكون الأساس لكل تفاوض في المستقبل على الحدود، في حين رفض رئيس الوزراء نتنياهو بشدة قبول أي شرط مسبق لبدء المحادثات.
لكن معارضته للطلب الفلسطيني لم تكن مسألة اجراء فقط، فقد أعلن نتنياهو في خطبته في المؤتمر الامريكي في 24 أيار/مايو 2011 أن المخطط الدقيق للحدود بين اسرائيل والفلسطينيين يجب ان يأتي نتيجة للمفاوضات، وأضاف قائلا: ‘لن تعود اسرائيل الى خطوط 1967 غير القابلة للدفاع عنها’.
وعبّر نتنياهو في واقع الامر عن تراث ‘الآباء المؤسسين’ للتصور الامني القومي الاسرائيلي. في تموز/يوليو 1967 بعد شهر فقط من حرب الايام الستة، قدّم نائب رئيس الوزراء آنذاك يغئال ألون، قائد البلماح في 1948، الى المجلس الوزاري المصغر اقتراحه الشهير، وهو الحفاظ على اراض ذات أهمية استراتيجية لأمن اسرائيل، وكان قصد ألون منح اسرائيل ما سماه ‘حدودا قابلة للدفاع عنها’ تحل محل خطوط 1967. وبقيت خطة ألون التي اعتمدت في الأساس على استمرار السيطرة الأساسية على غور الاردن، عنصرا مركزيا في تصور اسرائيل العسكري سنين كثيرة، رغم التغييرات التي حدثت في الشرق الاوسط. وهكذا أعلن رئيس الوزراء اسحق رابين في الخامس من تشرين الاول/اكتوبر 1995 بعد سنتين تقريبا من التوقيع على اتفاق اوسلو، أمام الكنيست بأن ‘حدود دولة اسرائيل وقت الحل الدائم ستكون وراء الخطوط التي كانت موجودة قبل حرب الايام الستة. ولن نعود الى خطوط الرابع من حزيران’. وأضاف بروح ألون الذي كان قائده في البلماح قائلا: ‘ستوضع الحدود الامنية للدفاع عن دولة اسرائيل في غور الاردن بالمعنى الواسع لهذا المصطلح’.
وقد استعمل رئيس الوزراء نتنياهو اثناء ولايته الاولى في تسعينيات القرن الماضي مصطلح ‘خطة ألون مزيدا عليها’ لتجسيد ما يفكر فيه. وقال رئيس الوزراء ارييل شارون ايضا بعد ان أعلن خطة الانفصال، لصحيفة ‘هآرتس’ في 14 نيسان/ابريل 2005 انه يجب على اسرائيل ان تستمر في السيطرة على غور الاردن، بل إن شارون وسّع تحديد المنطقة التي يجب على اسرائيل ان تحافظ عليها، الى السفوح الشرقية فوق شارع ألون. وبين استطلاع قام به معهد ‘داحف’ في كانون الاول/ديسمبر 2012 ان هذه التصريحات هي قاعدة الاجماع الامني الاسرائيلي، لأن 66 في المئة من الاسرائيليين (76 في المئة من السكان اليهود)، عارضوا العودة الى خطوط 1967 حتى مقابل اعلان كل الدول العربية انهاء الصراع. وأيدت نسبة مشابهة استمرار السيطرة الاسرائيلية على غور الاردن.
عادت وبرزت في الاشهر الاخيرة وجهة نظر اخرى لحاجات اسرائيل الامنية في الضفة الغربية حظيت باهتمام كبير في وسائل الاعلام. فقد نشر شاؤول اريئيلي مثلا، وكان في الماضي عقيدا في الجيش الاسرائيلي، وكان مشاركا في مبادرة جنيف، نشر في هذه السنة كتابه ‘حدود بيننا وبينكم’، زعم فيه أنه لأن التغييرات لاسرائيل قد تغيرت لم يعد غور الاردن ذا صلة بالتحديات الامنية الرئيسة التي تواجه اسرائيل. وزعم ان تطبيق مصطلح ‘عمق استراتيجي’ على غور الاردن ‘بمنزلة سخرية’.
وبدا على نحو مفاجئ ان رئيس الموساد السابق مئير دغان أيد هذا المذهب حينما زعم ان الجيش الاسرائيلي يستطيع الدفاع عن الدولة حتى لو انسحبت الى الخطوط التي كانت قبل 1967. وأضاف بصراحة في منتدى في مؤتمر الرئيس في التاسع عشر من حزيران/يونيو قائلا: ‘كان لغور الاردن أهمية في 1991 حينما كنا مُهددين من الاردن وسوريـة والعـراق، لكنه أصبح الآن ذا أهمية أقل’.
وتوجد مشكلتان مهمتان في هذا التوجه، الاولى ان رابين أعلن موقفه المعارض لانسحاب الى خطوط 1967 وتأييده الحفاظ على غور الاردن في 1995، أي بعد تلك التغييرات الاستراتيجية في 1991. والى ذلك أصر رابين على خط دفاع اسرائيلي في غور الاردن حتى بعد ان وقع قبل ذلك بسنة في 1994 على اتفاق سلام مع الاردنيين. وفي حين غير شارون توجهه نحو قطاع غزة في 2005 أصر على ان غور الاردن بقي ذا أهمية استراتيجية حيوية بالنسبة لاسرائيل. ومن المنطق ان نفترض ان كبار القادة الامنيين الاسرائيليين كانوا عارفين بحقيقة انه لا يمكن اقامة استراتيجية بعيدة الأمد في وضع مؤقت، ولا سيما في الشرق الاوسط الذي لم تنجح جهات التقدير في التنبؤ بالأحداث فيه مرة بعد اخرى.
والثانية ان سيطرة اسرائيل على غور الاردن ليست ضرورية فقط لدفع هجمات تقليدية، بل لاعتراض التهديد الذي أخذ يزداد لاسلحة متقدمة يمكن تهريبها الى المنظمات الارهابية. جربت اسرائيل بعد ان تركت محور فيلادلفيا زيادة تهريب السلاح الى القطاع كما وكيفا، وتحول غزة الى تهديد استراتيجي لمدن اسرائيل. وغور الاردن هو الموازي في الضفة الغربية لمحور فيلادلفيا من جهة دوره، باعتباره حاجزا لصد تهريب الوسائل القتالية من سورية والعراق وايران.
زاد الوعي في الغرب في المدة الاخيرة لأهمية هذا العامل في الانتصار على الارهاب. وقد نشر ماكس بوت في الآونة الاخيرة بعد ان قضى عشر سنوات في العراق وافغانستان تحت رعاية قادة امريكيين كبار من ماكريستيل الى باتريوس، كتابا كبيرا عن تاريخ حرب العصابات. ويعدد المؤلف خمسة عوامل تُسهم في نجاح جيوش العصابات، العامل الرابع منها هو قدرتها على الحصول على مساعدة من الخارج على صورة قوة بشرية أو أسلحة. وحينما يتحدث عن نجاح اسرائيل في وقف موجة عمليات الارهاب في مدنها في 2002 يذكر ‘نجاح الجيش الاسرائيلي في اغلاق الضفة الغربية’ في وجه تجديد الامداد.
تُغرق اسرائيل أكثر من مرة باقتراحات إحلال قوة دولية محل الجيش الاسرائيلي. لكن في حين حظيت في جنوب لبنان قوة اليونفيل الموسعة والمعززة بوحدات اوروبية بالثناء وعرّفها كثيرون في 2006 بأنها ضمان لأمن اسرائيل، فشلت تماما في مهمة منعها تهريب القذائف الصاروخية الى قرى شيعية في المنطقة بين الليطاني والحدود الدولية. واعتماد اسرائيل على قوات دولية في غور الاردن مخاطرة كبيرة جدا لا تستطيع تحملها أية حكومة اسرائيلية ذات مسؤولية.
بدأت الولايات المتحدة اليوم بغرض تعزيز جهود كيري محاورة اسرائيل في سؤال كيف سيتم الحفاظ على أمنها اذا سحبت الجيش الاسرائيلي من الضفة الغربية، ويقود الجانب الامريكي الجنرال جون إلين، الذي كان في الماضي قائد قوات الولايات المتحدة في افغانستان. وتبين في تقرير اخباري نشر في صحيفة ‘واشنطن بوست’ هذا الاسبوع ان ‘الموضوع الأكثر حساسية في المحادثات هو استمرار السيطرة على غور الاردن’. واذا أخذنا في الحسبان عدم اليقين الذي يلف مستقبل الشرق الاوسط في السنوات القريبة فليس من المعقول ان تزن اسرائيل سحب قواتها من غور الاردن وفي ضمن ذلك حقها في تعزيزها وأن تتخلى بذلك عما أصبح خطها الدفاعي المتقدم منذ 1967.

اسرائيل اليوم 5/7/2013

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية