«الصعود إلى الهاوية» الطبعة المصرية الفاخرة لسينما الجاسوسية

يُعد فيلم «الصعود إلى الهاوية» للكاتب صالح مرسي والمخرج كمال الشيخ أحد أهم أفلام الجاسوسية التي أنتجتها السينما المصرية على مدار تاريخها الفني والإبداعي كله، فمنذ إنتاجه في عام 1978 وحتى الآن لم يُصادف المُشاهد المصري والعربي فيلماً بهذا المستوى، كتابة وإخراجاً وأداءً تمثيلياً، حتى إن جميل راتب نفسه اعتبر أن دورة في هذا الفيلم على وجه التحديد هو الأكثر تميزاً من بين ما قدمه في السينما المصرية، حيث الجائزة الأولى التي حصل عليها كأحسن ممثل كانت عن دورة كضابط مخابرات إسرائيلي في الفيلم ذاته.
وربما يحتم حلول ذكرى وفاة الفنان جميل راتب في هذه الأيام تقييم وتحليل دوره بأثر رجعي باعتباره علامة دالة على تفوقه في الأداء التمثيلي واستحقاقه للجائزة والنجومية التي ولدت مع العرض الأول للفيلم المذكور في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول أواخر السبعينيات.
لقد اختار المخرج كمال الشيخ المُمثل القدير للقيام بدور ضابط الموساد المُكلف بتجنيد عبلة كامل الطالبة في جامعة السوربون في باريس لتكون قناة الاتصال والمعلومات بين القاهرة وتل أبيب، وبالفعل تم تقديم كل المُغريات لعبلة التي جسدت دورها مديحه كامل لتقع في فخ الجاسوسية بسهولة ويسر وهي لا تعي خطورة ما تفعله، إذ تم إقناعها بأن ما تقدمه من معلومات عن مصر وقواعدها العسكرية، يأتي في إطار خُطة عالمية لحفظ السلام ومنع الحروب، وتلك كانت دعوى تجنيد هبه سليم الجاسوسة الحقيقية التي تم كشفها من قبل المخابرات المصرية وحُكم عليها بالإعدام. لقد جمع صالح مرسي خيوط القضية كلها ونسج منها قصة الفيلم المهم بعنوانه المُثير «الصعود إلى الهاوية» كمعنى معكوس لفكرة الصعود إلى القمة، الحُلم الذي راود الفتاة المصرية الجميلة، وكان سبباً في ضياع مستقبلها وحياتها حين استجابت لغواية المال والرفاهية، وتركت نفسها للعُملاء يحركونها في الاتجاه المُخالف للأمانة والشرف والوطنية، ويزجون بها في أتون الخيانة والعار.

الفيلم الذي كشف عن تفاصيل كثيرة في قضية الجاسوسة هبة سليم اعتبرته الفنانة مديحة كامل أيضاً واحداً من أقوى أفلامها، كونها قدمت دوراً نوعياً شديد الحساسية يتصل بقضية الأمن القومي للبلاد، كما يتصل بوعي المواطن المصري وثقافته السياسية، لذا اعتبرت مديحة دورها بمثابة رسالة قوية للأجيال الشابة مفادها الحماية من الوقوع في براثن الخيانة والمؤامرة، تحت أي تأثير أو إغواء بالمال أو وعد بوظيفة مرموقة أو مكانه اجتماعية خاصة. وقد روى الفنان الراحل جميل راتب في أحاديث صحافية وتلفزيونية عديدة تفاصيل ترشيحه للدور من جانب المخرج كمال الشيخ، موضحاً أن عدم وجود نجم شباك آخر مع محمود ياسين كداعم قوي أعطاه الفرصة في الحصول على مساحة درامية واسعة سمحت له باستغلال كل قُدراته وطاقاته الإبداعية، فظهر بالمستوى اللائق، وكان مُقنعاً للغاية في أدائه، لاسيما أن دور محمود ياسين وهو البطل الرئيسي للفيلم كان محدوداً مقارنة بدوره. كذلك تعدُد المشاهد المشتركة بينه وبين الفنانة الراحلة مديحه كامل كان له أثر بالغ في نجاح دوره كبطل ثان وشخصية محورية في الأحداث بوصفه المُتحكم في كل تحركات الجاسوسة عبلة، حيث جميع الخيوط المُرتبطة بدورها ونشاطها كان في يده هو كضابط مخابرات إسرائيلي، ويُرجع جميل راتب نجاحه في دوره التاريخي الاستثنائي إلى ثقة المخرج كمال الشيخ فيه وبراعة الكاتب صالح مرسي في رسم الشخصية والاعتناء بتفاصيلها الإنسانية الدقيقة.
وهناك ما لم يُذكر في الفيلم عن طبيعة العلاقة بين ضابط الموساد الإسرائيلي وهبة سليم الشخصية الحقيقية التي دارت حولها الأحداث، وأخذت عنها قصة الفيلم، وهو الشيء الغامض والمفقود في المُعالجة الدرامية، حيث ذُكر في بعض الكتابات التي تناولت هذه القضية في حينها أن الضابط الإسرائيلي ارتبط عاطفياً بالطالبة الجامعية هبة سليم وكان شديد الإعجاب بها وتسلل إليها من هذا الجانب حين قرر تجنيدها، ولما تم التعاون بينهما زاد تعلقه بها وأسف أشد الأسف لما علم بخبر القبض عليها وتقديمها للمُحاكمة، هذه التفاصيل لم يتم طرحها في سياق الأحداث، ولم تثبت صحتها من الناحية الواقعية، لكنها ظلت مجرد هوامش تُحيط بالقصة الحقيقية.
وربما اكتفاء الكاتب صالح مُرسي بما ورد في السيناريو الذي كتبه بإحساس وطني وقُدرة مهنية عالية وتركه لبعض المساحات الدرامية شاغرة دون توضيح، جعل الفيلم أكثر إثارة وأشد جذباً وتلك هي احترافية الكتابة النوعية لمثل هذه القضايا الشائكة والمهمة.
يبقى دور محمود ياسين كضابط مخابرات مصري انحصرت مهمته في مُتابعة البطلة والقبض عليها قبل أن تكتشف الموساد حقيقة أمرها وتعرف أن ملفها أصبح مفتوحاً أمام جهاز المُخابرات المصرية، لذا جاءت دقة الترتيب والتخطيط للقبض عليها سرية للغاية ونجحت بالفعل خُطة الضابط المصري رفعت جبريل الذي جسد دورة بجدارة محمود ياسين فأضاف إلى إنجازاته الفنية والإبداعية المُعتبرة مُنجزاً جديداً وظلت عبارته المأثورة لعبلة كامل وهما في الطائرة قبيل النهاية.. هي دي مصر يا عبلة أيقونة من أيقونات التعبير الصوتي في الأداء التمثيلي الفارق.

كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية