في اللوحة أشكال غامضة، أحجام متراكبة، وما يشبه الوجوه أو الأطراف، أو أجزاء من كتل مهشمة. والعتمات والإضاءات تدفن ما تبقى من المعنى تحت طبقات شفافة من غبار التكوين. يفترض أن نكون أمام «صورة»، والصورة لم تكن لتكون شيئاً آخر غير ما التقطته الآلة، ولكن، ماذا التقطت؟
الصورة ليست خادعة، إنها مطابقة تماماً للواقع، والتمويه الوحيد فيها هو ما تقوم به العدسة عندما تجمد المرئي في نقطة بين المتناهي في الصغر والمتناهي في الكبر. وما نراه إذن هو هذه النقطة المعزولة (هل هي منتقاة؟) التي ما إن تصبح موضوعاً للعرض حتّى تفقد كل شيء: المادة والاسم والحركة. ولن يسعفها في مقاومة هذا الفقدان، أن نعرف بإرشاد لا ضرورة له، أنها كانت ما كانته، ماء، أو لحاء أو طيناً أو تفاصيل أو بقايا.. لأنها ببساطة لن تعود إليه، ستصبح واقعاً جديداً يصنعه الضوء أو العتمة أو الزمن متحرراً من المادة. ولكن ماذا يرى الفنان عندما يقرر أن يرفع العدسة نحو ما يرى؟ إنه لا يرى واقعاً، فهو لا يصور مشهداً أو حادثاً أو ملامح تنضح بالرسائل الصامتة، ربما يرى، أو يحدس احتمالاً خفياً للواقع، قد يراه كما هو في الصورة، بعد أن تولد الصورة. وقد لا يراه أبداً كذلك، لأن الاحتمال قد يفاجئه كما يفاجئنا، لأن الاحتمال له هامش من الحرية يسمح له بالتعدد والتفاعل أو حتى التناقض. ما هو مقدار الصدفة ومقدرا الإرادة في ما تستقر عليه الصورة عندما تعبر من الآلة إلى مساحة العرض؟ سؤال لا يخلو منه بصيغ مختلفة أي عمل فني في الرسم كما في الكتابة، أو النحت، أو السينما، إذ أن المنجز في نهاية المطاف هو مزيج من ضبط وانفلات، من رؤية تقود الإبداع، ومن انعطافات تخطف الرؤية. لكن في أعمال خالد الأشعري يتعلق الأمر بمراهنة استراتيجية تريد إشراك الانفلات في بناء الصورة، هذا ما يدفعنا إلى التساؤل كلما وقفنا أمام لوحة من لوحاته ما هو الأصل؟ وما هو المسار المعقد الذي وضعنا أمام هذا الاحتمال بالضبط وليس أمام غيره مما لا نهاية له من الاحتمالات؟ وعند ذلك فإننا نتساءل بالضرورة عمّا نراه وعمّا لا نراه، وسيكون من قبيل المجازفة أن نعتبر الكتل والمساحات، الامتلاء والخواء، والإنارة والظل أشياء ولدت في جملة أولى من لقطة واحدة، يجدر بنا أن نعتبر عمل المصور في هذه الحالة موصولاً بفرشاة خفية (لذلك أسمي الصورة هنا لوحة) فكما تتراكب في اللوحة طبقات من الألوان والحركات، فإن فنان التصوير هنا يقود اللقطات ويراكم بعضها فوق بعض، قبل أن يستقر بقدر غير قليل من «الإرادة» على صِيغة تناسب رؤيته لثبات الموجودات وتحولاتها.
كثيراً ما تتضمن فكرة التصوير «تخليد» الكائنات أو الأشياء في صيغة من صيغها العابرة، كنوع من الشهادة، شهادة على العصر، وعلى تطور المشاعر والميول والصراعات.
هناك في خلفية كل عمل مسار حافل من المحو والإضافة، وإعادة التركيب، أحياناً يؤدي المسار إلى لوحة واحدة، وأحياناً أخرى يسمح الفنان لنفسه بعرض «الاحتمالات الممكنة» التي تقول إن الصيغة الوحيدة لا تُوجد في أي شيء وأن العين نفسها لا ترى شيئاً حتّى تفقده.
كثيراً ما تتضمن فكرة التصوير «تخليد» الكائنات أو الأشياء في صيغة من صيغها العابرة، كنوع من الشهادة، شهادة على العصر، وعلى تطور المشاعر والميول والصراعات… ولقد كانت الصورة بهذا المعنى ومنذ منتصف القرن الماضي، سِجلاً حيّاً لوقائع الحروب والنزاعات وآلام البشرية في مختلف أصقاع العالم، ثم صارت في اندفاعات التمرد على سوداوية الحرب، نوعاً من الحبور الحضري يحتفي بالموضة والفن والمعمار وغليان المدن الحديثة، ثم ذهبت في بعض تجلياتها إلى الاهتمام بالتفاصيل المنسية وبالمفارق والعبثي في حياة يومية، تكاد تفقد كل معنى بتراكم الصور والاستهلاك واللامبالاة..
في هذه التجربة نحن أمام «تصوير تجريدي» إذا صح هذا التعبير، كأن «موت المعنى» في ما نراه، أو «موت الصورة» في ما نرزح تحت أثقاله صباح مساء، يقتضي أن نغمض أعيننا ونكتفي بما نستدعيه إلى دواخلنا من سحر الأثر.
إنّها مراهنة صعبة في عصر تكاد فيه الصورة تنوب عن الوجود، أن تقترح صورة لا تتزاحم على القول. إنها بطريقة ما اختيار «للصمت والصورة» ليس فقط كمقاربة فنية بل أيضاً كهوية للصورة. فالتحول لا يتم في ما نراه خارج مكونات اللوحة، أي بالعودة إلى الأصل.. كل شيء يحدث، يحدث داخل الصورة، ليس بتكبير العناصر، بل باستنبات عناصر جديدة باللعب التقني وبالمغامرة الفنية، ووضع ذلك كله في قلب تفاعل صامت بين الرائي وموضوعه. (نحن لا نرى ما يراه.. وهو لا يرى ما نراه). يطرح هذا الاختيار طبعاً عدداً من الإشكالات الفنية المرتبطة بهذه العلاقة المعقدة بين «الصورة» و«اللوحة». متى تنتقل الصورة من هويتها القديمة (التقاط الجاهز) إلى هويتها الجديدة (تركيب المحتمل) وكيف تفعل ذلك. وما هو «المكسب الفني» من الانتقال من الصورة إلى اللوحة.
إذا كان الإبداع الفني هو ذلك الانبثاق الدائم لسبل غير مطروقة، فكيف يمكن حصول ذلك في مساحة ضيقة بين اللقطة وامتدادها. هذا هو مكمن القوة والهشاشة في هذه المراهنة الفنية التي تجعل الفنان لا يقف خلف آلة التصوير بل يتحرك قلِقاً في قلب ما يُصوِّرُه..
٭ كاتب مغربي