بعد انعدام كافة الإمكانيات أمام حل الدولتين، للأسباب المعروفة وأهمها سن قانون القومية، بدأ الحديث السياسي من قوى فلسطينية وعربية عن إمكانية حل الدولة الثنائية “القومية”، أو حل الدولة الديمقراطية العلمانية الواحدة. للأسف، لطالما راهن فلسطينيون وعرب على حل الدولتين، وفوجئ هؤلاء بعقم مراهنتهم على هذا الحل، حتى بعد مضي سبعين عاما على إنشاء إسرائيل.
نتساءل: إلى أي مدى ستقودنا المراهنة الجديدة على أحد هذين الحلين؟ وكم ستمضي من السنوات على المراهنين الجدد، قبل اتضاح الحقيقة الناصعة لهم، بأن من الاستحالة بمكان الوصول إلى أحد هذين الحلين. الذين يعتقدون بإمكانية أي منهما، إما لم يحسنوا قراءة عدوهم وأعدائهم، وفقا لمبدأ حمورابي “العين بالعين والسن بالسن”، كما مبدأ هنيبعل القائد العسكري القرطاجي الشهير: “إعرف عدوك، قاتله، ولا تقع أسيرا بين يديه”، أو إنهم يراهنون على تحولات
تاريخية في الحركة الصهيونية، أي أنهم يراهنون على أن الصهيونية ستسلخ جلدها وتغيرمضمونها، وتصبح صهيونية ديمقراطية، تدين العنصرية والعدوانية، وتستنكر ارتكاب المجازر وحرب الإبادة الجماعية، وتصبح حركة إنسانية تقدمية. في هذا المجال نود التذكير بقصيدة المرحوم الشاعر محمود درويش “عاشق من فلسطين” حين يقول: “فبيض النمل لا يلد النسور/ وبيضة الأفعى يخبئ قشرها ثعبان”. أما استحالة تحقيق أحد هذين الحلين، فتتلخص في الأسباب التالية:
*أولاَ: إن الصهيونية انتقلت من مفهومها الديني إلى مفهوم سياسي بشكل حديث نسبياً، حين بدأ البحث عن أهمية إيجاد وطن لليهود، بعد أن استقر الرأي على إقامته في فلسطين، كون الأخيرة ستكون مصدر جذب لليهود من مختلف أنحاء العالم للهجرة إليها. ليس صدفةً أن ظهر ذلك بعد بروز عصر القوميات في أوروبا، وبدء نشوء الدولة بعد الانتقال من عصر الإقطاع. شعر قادة الحركة الصهيونية بمواءمة الظرف للمناداة بـ”دولة قومية” لليهود، في استغلال واضح لقرار مجلس العموم البريطاني بمنع هجرة اليهود إلى بريطانيا (ثم جرى إلغاء القرار). في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897 فإن مفهوم الإرهاب، ظهر مع بروز الصهيونية كحركة سياسية.. وهي التي اعتمدت في مؤتمرها الأول، ثلاثة مبادئ لإنشاء الدولة: الإرهاب كوسيلة لتحقيق الحلم الصهيوني وبقاء دولته. ثانيا، الإمساك والسيطرة على وسائل الإعلام في العالم. ثالثا، الإمساك بكافة الأساليب والطرق برأس المال في دول العالم.
*ثانيا: لاجتذاب اليهود، كان لا بد من اختراع شعارات جذب دينية للمهاجرين: مثل “أرض الميعاد” و”شعب الله المختار” و”أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض” الخ. بالفعل، بدأت الحركة الصهيونية بالترويج لهذه الشعارات في الأوساط والتجمعات اليهودية في أوروبا، وعقدت اتفاقيات مع العديد من الدول (بما فيها ألمانيا) للتضييق على اليهود، وصولا إلى إجبارهم على الهجرة إلى فلسطين. وهنا لا بد من الإشارة إلى مفهوم مغلوط وخاطئ، أن الدول الأوروبية سعت للتخلص من اليهود، حقيقة الأمر أن الصهيونية هي التي روجت لهذا المفهوم، لتصديق ادعاءاتها بـ”العداء لليهود”. هذا لا يعني مطلقا، عدم ظهور موجات عداء لليهودية. ولكن مثلما أوضحنا في مقالة سابقة على صفحات “القدس العربي” أن موجات العداء لليهود، ظهرت بفعل اليهود أنفسهم: اعتقادهم بامتياز توراتهم، أنهم فوق كل الشعوب الأخرى، لقد عمل حاخامات القرون الوسطى على زرع هذين المبدأين في الذهنية اليهودية، لتعزيز سيطرتهم على التجمعات اليهودية، وإقامة التحالفات مع زعماء الدول الأوروبية ورأس المال المالي فيها، خاصة مع بزوغ نوايا استعمارية لها. بالمناسبة، لطالما ضغط الحاخامات على اليهود للسكن معا في الحارة ذاتها أو الموقع ذاته، لم يكن الأمر عفويا بالطبع، ولكن لتعزيز سلطة الحاخامات عليهم ولأنهم متشربون بمزايا وخصائص استثنائية عن كل الآخرين، ولرفع أسهم الحاخامات لدى حكام الدول. بالمعنى الفعلي، كان كل ما سبق عبارة عن إرهاصات، شكّلت بروفة لمشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وكانت قد بدأت في أواسط القرن الثامن عشر (في عام 1740 تحديدا – بداية التأريخ للثورة الصناعية، حتى أواسط القرن التاسع عشر في عام 1860 تحديدا ـ ووصول الثورة الصناعية إلى فائض الإنتاج) بدأت العلاقات تتزايد بين الحاخامات والصناعيين، الذين بدأوا بدورهم في مراكمة رأس المال. ما دفعهم للبحث عن أسواق جديدة لتصريف منتجاتهم من جهة، ولامتصاص ثروات البلدان من المواد الخام، بمعنى آخر تبلور شكل جديد من الاستعمار من خلال الاحتلال المباشر. تمت رسمنة هذا التحالف في مؤتمر كامبل بنرمان، الذي امتدت أعماله من 1905 -1907، وعقد على جلسات متباعدة، وكان أحد قرارته، زرع دولة في فلسطين عدوة لسكان المنطقة وصديقة للاستعمار، تفصل شطري الوطن العربي، وتمنع وحدة بلدانه، بذلك أصبح التحاف عضويا بين الصهيونية والاستعمار، أو الأصح قولا إنهما اندمجا معا. جاءت اتفاقية سايكس – بيكو، كما وعد بلفور ترجمة تفصيلية لاتفاقية كامبل بنرمان.
القوة والإرهاب، مبدآن سيظلان ملازمين للوجود الإسرائيلي، استنادا إلى قانون أمني إسرائيلي بهدف منع إجبار إسرائيل على حل لا تريده
*ثالثا: منذ ما قبل إنشاء دولة الكيان الصهيوني حتى هذه اللحظة، أي على مدى يقارب المئة عام، فإن الذي يتطور فيها شعارات مثل، مزيد من التطرف والإرهاب والعدوان، مزيد من اغتصاب الأرض الفلسطينية والعربية، مزيد من تهجير الفلسطينيين، مزيد من العنصرية بحقهم. الدليل على صحة ما نقول: إن طبيعة التحولات الداخلية في إسرائيل، وفقا لإحصائيات إسرائيلية عديدة أجريت على مدى سنوات قليلة ماضية، تؤكد مضي الشارع الإسرائيلي قدما نحو التطرف في حدوده القصوى، فالتأكيدات تشي بأن نسبة الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة سيبلغ حجمها بنسبة 60-62% من الإسرائيليين عام 1930. أيضا، فإن آخر 5 دورات لانتخابات الكنيست، مكنت هذه الأحزاب من مضاعفة عدد أعضائها فيه. دلائل كثيرة أخرى يمكن الاستناد إليها.
*رابعا: إن تدخل المؤسسة الدينية التوراتية في الحياة السياسية والاجتماعية الإسرائيلية، كما العسكرية بالطبع، ينمو باطراد مع عدد السنوات التي تمر على إسرائيل كدولة. يكفي هذا العامل وحده لتبيان عقم المراهنة على أي من الحلول الاستراتيجية مع هذه الدولة العنصرية، بحكم المصادر التي استقت منها تشريعاتها الدستورية والقانونية، وأصول سياساتها المنتهجة ضد الفلسطينيين والعرب والإنسانية برمتها. فـ”الأنا” الطاغية مقارنة مع كل الأغيار(غير اليهود) لا يمكنها إنتاج أي نمط من التعايش معهم، في دولة اعتبرت وما زالت وستظل تعتبر، دولة خص بها يهوه (الله حسب تسميتهم وفي عرفهم!) اليهود دون غيرهم، فكيف يمكن التفريط بحق إلهي؟
*خامسا: في تاريخ إسرائيل منذ وجودها حتى اليوم، فإنها الوحيدة تقريبا، التي وقفت مع الأنظمة العنصرية في القارات الثلاث: آسيا، إفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما وقفت مع الاستعمار الفرنسي للجزائر، ومع العدوان (بل شاركت فيه) الثلاثي على مصر، ومع الاحتلال الأمريكي لفيتنام، ومع نظامي الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وروديسيا، ومع السفاح بينوشيه في تشيلي، فهل يمكن لدولة كهذه أن تجنح للقبول بدولة ثنائية القومية (مع خطأ اعتبار اليهود قومية، فاليهودية هي ديانة أولا وأخيرا) أو دولة ديمقراطية علمانية واحدة؟
*سادسا وأخيرا وليس آخرا: القوة والإرهاب، مبدآن سيظلان ملازمين للوجود الإسرائيلي نفسه، استنادا إلى قانون أمني إسرائيلي (من جملة قوانين أخرى) اشتقها بن غوريون ومجموعة من السياسيين والعسكرين (تجري تعديلات عليها بين الفينة والأخرى، لكن من دون المساس بالأسس) بهدف منع إجبار إسرائيل على حل لا تريده. بالنسبة للولايات المتحدة ستظل حليفة استراتيجية لإسرائيل وببغاء لها. أما من يراهن على تغيير الصهيونية لمضامينها، فهو ليس أكثر من واهم.
*كاتب فلسطيني