يستعيد المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند طرفة من التراث الييديشي. ذلك في كتابه «كيف توقفت عن كوني يهودياً» 2013. أم يهودية تهمس في أذن ابنها المطلوب للجندية وهو يتأهب للالتحاق بجيش القيصر ابان حرب القرم: «اقتل التركي يا ابني ثم لا تنسى أن تجلس لتناول الطعام». ما أن يطمئنها ابنها بأنه سيقوم بذلك حتى تواصل: «كذلك عليك أن تحرص على قسط من الراحة بعد كل هجوم تقتل فيه تركياً». يسألها حينها: «وإذا قتلني التركي يا أمي؟». تستهجن الوالدة: «وماذا فعلت له كي يقتلك هذا التركي؟»
هذه الطرفة المستلّة من التراث الييديشي تصوّر مشكلة الازدواجية في المعايير العاطفية والأخلاقية عند جماعة منطوية على ذاتها حسب صاند.
فالأم هنا منشغلة بموجبات الأمومة تجاه فلذة كبدها الذاهب الى أرض المعارك بكل مسؤولية وحنان. تريده أن لا تلهيه الحرب عن وجبات طعام وقيلولته اليومية. لكنها تبدو غير مستوعبة لماذا يمكن أن يصاب ابنها بمكروه في القتال.
فهو إن لم يقتل التركي لا سبب وجيها لهذا التركي أن يقتله، ولكنه اذا قتل التركي عليه عدم نسيان الاهتمام بصحته وراحته بعدها.
يعتبر صاند أن هذا النمط الانطوائي من الأخلاق، انوجد بالفعل، ولأسباب عديدة لدى الجماعات اليهودية. بحيث أن الخروج منه إلى وزن الأمور بمنظار الكونية كثيراً ما استدعى إما الإنشقاق عن الجماعة، وإما خوض الصراع داخلها بضراوة. لئن حمل المنشقون والتنويريون من اليهود في الأزمنة الحديثة لواء الكونية فهم قاموا بذلك بالضد من هذه الانطوائية التي أثقلت كاهل الجماعات التي تحدروا منها، وكانت الانطوائية في جزء أساسي منها دفاعات ذهنية وعاطفية للاحتماء من غدر الزمان والأغيار.
ما يطرحه صاند في كتابه موضع الإشارة، أن هذه الأخلاقيات الانطوائية المحصورة «داخل الجماعة» والتي كان يمكن إيجاد مسوّغات لها في الدياسبورا، وبازاء الهجمات المعادية للسامية، تحولت إلى وبال على إسرائيل.
لأن ما حصل أنه، وبعد أن كان اليهود المتدينون ينفرون من الحركة الصهيونية، فقد تبدّل الأمر رأساً على عقب اثر قيام الدولة وتوسعها. حينها أغدق هؤلاء المتدينون على الصهيونية التي انحازوا متأخرين اليها، ثم أخذوا يحولونها لتشبههم أكثر، كل هذه الانطوائية – القبلية التي تفصل بشكل مريع بين الصالح والطالح داخل الجماعة، وبين معايير التحرك ومعاملة الآخر وتوقع سلوكه خارجها.
يبدو كتاب صاند هذا في حركة معاكسة لكتابيه الأشهرين، «كيف جرى ابتداع الشعب اليهودي؟» و«كيف جرى ابتداع أرض إسرائيل؟». في كتابيه الآنفين، يفكك السردية الصهيونية بمنظار أنّها تدليس على التراث اليهودي، وتحوير أيديولوجي له. تنبيت رابطة قومية من رابطة دينية، وتلفيق تاريخ قومي متواصل لـ«الشعب اليهودي» منذ العصر القديم. أما في كتابه الذي يعلن فيه أنه لم يعد يصنّف نفسه يهودياً فهو يتوجه باللائمة، على العكس من ذلك، الى هذه الذهنية الانطوائية التي استشرت بين جماعات الشتات، والتي قامت الصهيونية في زمن مؤسسيها على الوعد بتخطيها، فكانت النتيجة أن هذه الانطوائية عادت واستبدّت بالصهيونية نفسها، فحصل ما لا طاقة لصاند على تحمّله. مع أنه يشدّد في المقابل على أنه إذ يتوقف عن كونه يهودياً، فإنه لا يبتغي التوقف عن كونه إسرائيلياً، ما دام يجدد فعل انتمائه الى كل من الثقافة باللغة العبرية التي يساهم فيها بالنتيجة، والى الأمل بدولة علمانية تساوي بين جميع مواطنيها في إسرائيل.
لئن حمل المنشقون والتنويريون من اليهود في الأزمنة الحديثة لواء الكونية فهم قاموا بذلك بالضد من هذه الانطوائية التي أثقلت كاهل الجماعات التي تحدروا منها
في حرب القرم نفسها التي عرّجت عليها طرفة الأم الحنونة ذات المعايير المزدوجة، انخرط الطبيب اليهودي ليو بينسكر بحماسة الى جانب الجيش الروسي. يومها كان بينسكر من أشد المتحمسين لخيار «الروسنة». أن يهجر يهود الإمبراطورية كل خصوصية انطوائية لهم، ويندمجوا في الكل الروسي تماماً. ثم جاءت المجازر ضد اليهود في ثمانينيات القرن التاسع عشر لتجعله يبدّل نظرته، ويتحوّل إلى أحد روّاد الصهيونية الأساسيين. خلص بينسكر من تجربة هذه المجازر الى أن انعتاق اليهود لا يمكن أن يتحقق بالاندماج بمجتمعاتهم، بل أن الرغبة بالاندماج زادت من السلبية والعدائية لهم. لا يسعهم اذا سوى الانعتاق الذاتي. لا يمكن انعتاقهم الا كأمة. وهنا ينبهنا الباحث أوري أيزنتسفايغ أن هذا لا يعني أبداً أنّ هذه الأمة موجودة بالنسبة إلى بينسكر، وهذه نقطة مفصلية بالنسبة إلى أيزنتسفايغ لأجل فهم مراد الصهيونية الأوّل. فما يطرحه بينسكر هو بالعكس من ذلك: اليهود لا يشكلون أمة، لكن إذا ما أرادوا الانعتاق لا يمكن ان يتأمن انعتاقهم بالاندماج، بل يتأمن بالانعتاق الذاتي، وعليهم اذاك ان يصيروا أمة، وكي يصيروا أمة عليهم أن يوجدوا لهم وطناً.
مع هذا يرفض أيزنتسفايغ في كتابه «الصهيونية كانت نزعة أنسنة» الصادر عام 2019، اعتبار الصهيونية حركة قومية في جيل روادها. بخلاف صاند وبخلاف المدافعين أو المهاجمين للصهيونية على حد سواء. فالفكر القومي لا يصرّح أبداً بأنّ أمته غير موجودة ويريد ابتداعها، في حين أن الصهيونية في جيل روّادها لم تخف ذلك. وعليه، يضعنا أيزنتسفايغ أمام ما يعتبره نموذجين متعارضين. نموذج «التجذّر في الأرض» في حالة داعية القومية الفرنسية اليميني المعادي السامية موريس باريس، ونموذج اللاجذورية بامتياز عند ثيودور هرتسل. ويخالف أيزنتسفايغ موقف مؤرخ الأفكار الإسرائيلي زئيف سترنهل الذي ذهب إلى أن الصهيونية انتقلت سريعاً الى تبني منظار باريس والقومية العضوية للأمة، فيعتبر أن هذا الانتقال لم يحصل الا بعد صعود «الصهيونية التنقيحية» اليمينية، في حين يرى سترنهل ان هذا النموذج المنتمي الى الخط المعادي للتنوير انتصر في اليسار الصهيوني حتى قبل اليمين، ومع ديفيد بن غوريون وقبل زئيف جابوتنسكي.
مع هذا ظل سترنهل مصرّاً على أنه الصهيوني الحقيقي الوحيد، أي المنتمي للمشروع الأساسي المنحاز للتنوير، قبل أن يقلب بن غوريون المسائل لصالح الانطوائي والخصوصي، لا الكوني. الخلاف اذا بين سترنهل وأيزنتسفايغ يدور حول اللحظة التي بدأ فيها الانحراف عن «الصهيونية بنت الأنوار» الى «صهيونية الأنوار المضادة». وفي الحالتين، محاولة إنقاذ نواة أنسنة مضمرة أو ضائعة، عند رواد الصهيونية الأوائل. في المقابل، صاند الذي صوّب نقده لهؤلاء الروّاد عقد العزم في المقابل على إنقاذ نتيجتي الصهيونية بعد عقلنتهما وأنسنتهما: الدولة الإسرائيلية، اذا ما علمنتها، والثقافة العبرية اذا ما ساهمت فيها على طريقة صاند نفسه.
حاول كل من صاند وسترنهل وايزنتسفايغ التعامل، بمقاربات ومن مواقع مختلفة مع انتقال الصهيونية من تقديم نفسها كوليدة الهسكالاه، حركة الأنوار اليهودية، وشيخها مندلسون، ابنة التصور القائم على وحدة الحضارة الإنسانية وكونيتها، الى المقلب المنتمي الى الانوار المضادة، وتحول إسرائيل من دولة مؤيدة من قسم كبير من اليسار الغربي الى دولة يتحمس لها اليمين المتطرف سواء على امتداد الغرب أو في الهند أو القوى الأكثر رجعية في العالم العربي.
مع هذا يسيطر على منظار الثلاثة، وسترنهل رحل من بينهم قبل عام، هاجس إنقاذ لُبّ ما، أو نتاج ما، من المشروع الصهيوني. في مقابلهم، سبق الروائي والمفكر الإسرائيلي افراهام بت يهوشوا ان طرح مقاربة مختلفة. اذ اعتبر ان اليهودية هي هوية المنفى، والأسرلة كي تكون تامة عليها أن تتجاوز هوية المنفى الانطوائية هذه.
فعند يهوشوا ان التشتت كان طوعياً في الأساس، وكان «عُصاباً» في نفس الوقت، وأن التحرر من هذا العُصاب غير ممكن دون التحرر من اليهودية نفسها بوصفها ديانة وهوية منفى. كان يهوشوا، وهو سفارادي، مصرّاً على أن هذه الأسرلة لا تعني بأية حال حيادية قومية، مع العرب الفلسطينيين، وكي «يكحلها عماها»: ذهب إلى أن الأسرلة الكاملة، كتجاوز لليهودية التي هي هوية المنفى، ينبغي أن تستوحي من نموذج العبرانيين قبل السبي البابلي (الهيكل الأول) لا بعده (الهيكل الثاني) يوم كان يمكن ان تعبد الأوثان دون أن يخرجك ذلك من عبرانيتك!
كاتب لبناني
رائعة ??
بنو إسرائيل الذين استولوا على فلسطين وأطلقوا على سرقتهم إسم إسرائيل وتخفوا تحت كنية صهاينة كي يختلط الأمر على ضعاف النفوس. في حين أن تارخهم بنفس أحداثة تقريبا يتكرر ولكن هذه المرة لن تسلم الجرة فقد وقعوا ولم يستسيغوا سقوطهم.
لا أعرف لماذا ذكرتني قصة هذا المجند وأمه بأفلام ساشا بارون كوهين…
فهو في أفلام “بورات” شخص غير متحضر قادم من بلد ذي أغلبية مسلمة اسمه ينتهي بكلمة “ستان” (كازاخستان)… يبهر الأمريكيين و “يرهبهم” بعدم قدرته على الاندماج في المجتمع أو على حتى أن يتصرف كإنسان عادي، كما أنه يتوجس من اليهود ويحتفظ لهم بنفس الصور النمطية في وعيه رغم معاملتهم له معاملة حسنة….
كما أني أعتقد أن ساشا بارون كوهين يشعر بالغيرة والحقد من شخصية Aladdin التي يحبها العالم، ولكي يجعل الناس تسترجع بعض الصور النمطية السيئة عن العرب، والتي لطفها فيلم ديزني، فهو يختار اسم علاء الدين لإحدى شخصيات أفلامه عن ديكتاتور عربي مقيت…
ناهيك عن وصم الفلسطينيين بالارهاب في فيلم Brüno…
مزيدا من التألق سيد وسام سعادة
–
تحياتي
شكرًا أخي وسام سعادة. مقتل جميل جدًا،. هناك الكثير من المفكرين اليهود الذين كفروا بالصهيونية السائدة اليوم في إسرائيل. أعتقد أن المقال يحتاج إلى متابعة في جزء ثاني وثالث فالحرب الأخيرة على غزة بينت عورة الصهيونية وعنصريتها والقادم لن يكون أقل أثرًا، على دولة يبتزها اليمين المتطرف وأصبحت دولة عنصرية بامتياز.