حين كنت صبيّا كنت أقرأ في المكتبة العمومية قصصا للأطفال مرسومة بشكل مقبول لكنها جميلة.. قلما كانت الرسوم ملونة لكنّها كانت بديعة الألوان. أوّل الرسوم التي رأيتها في الكتب كان رسم الأميرة النائمة.. أتقن الرسام تفاصيلها: شعر أصفر ناعم ووجه ورديّ عَبِق.. كانت عيناها مغمضتين فعلا وكأنها تنام، كنت أراها تنام فعلا، بل وأستطيع أن أحلم بما تحلم.. كان فتاها الذي سيوقظها جميلا جدا، أين جماله من جمال أقراني. قال لي أحد أقراني لماذا تقرأ تملَّ في الصور واترك الكتابة.
أن تكون الكتابة شيئا زائدا قد يكون قرارا من الصبا، وفرارا من ظلمة الخطّ إلى بهر الصورة، كان اختياري أنا أن أقرأ وألتهم الخط التهاما وأصل الصورة. كانت أميرة وجميلة ونائمة في واضحة النهار، وتنام على الملأ ويكفي أن تعيد النظر إلى صورتها التي خلفتها وراءك لتجدها ثابتة الجمال مستمرة في النوم. لم أكن في ذلك الوقت أرى من يقاسمنني مقاعد الدراسة لا جميلات ولا قبيحات، كنت أراهنّ شيئا منّي: فقيرات مثلي وبسيطات لا يعنيني من جمالهنّ ومن نومهنّ شيئا. في ذلك الوقت كانت مشاعرنا متلابسة لكن لم يكن الحبّ تفصيلا من تشابكاتها. حين قرأت عن الأميرة النائمة ورأيتها في الرسوم صرت أشعر بالجمال والودّ والتعاطف مع جميلة يقظتها خير من نومها. الرسوم في القصص إن أُحسن اختيارها تتجاوز وظيفتها التمثيلية – أن تمثّل شخصيّة هي في ذهنك مجرّدة أو خيالية أو هلاميّة – إلى أن يكون لها دور في دفع السرد وفي زرعه في بيئته. لو قرأت النصّ بلا صور لتخيّلت فتاة من فصلي لها ضفيرتان من كلّ جانب واحدة، ولكانت تحمل مِيدعة ورديّة وحذاء جديدا لماعا، يكشف عن جوربين أبيضين ولتصوّرتها بلا ميزة أميرية، لأنّ تخيّلها غير متاح لي، حتى تتخيّل شيئا عليك أن تكتسب عنصرا من عناصره، لتبني عليه ونحن في ذلك الوقت لم يكن لنا شيء من تلك العناصر لنتخيل جوّا أميريا تكون فيه الأميرة أميرة وجميلة لا كجمالنا بل كجمال الأميرات.
الأميرة التي صوروها لنا كانت بملامح أوروبيّة هل ولدت فينا ساعتها عين تنظر إلى بعيد لتجد الإمارة والجمال؟ وهل انبثق فينا ذهن يعتقد أنّ الأفضل بعيدُ المنال. لكن دعنا من التخيّل: هل كان لدينا في القريب المتاح «أفضل»؟ شعر الأمير شعر أشقر ممشط وجيّد التمشيط والعناية وطويل مرسل على كامل الجيد، ينام طيّعا، وعيناها حالمتان ووجها منتقى العناصر وكل عنصر في موضعه المثالي وفي حجمه المحمود.. وأنت ماذا لديك في خارجك؟ شعر مغطى أسود غير ممشط غالبا، كسي زيتا: أنا إلى اليوم لا أفهم لمَ كانت الأمهات تضعن الزيت على شعر بناتهنّ؟ والأنف إمّا أن يكون طويلا قليلا أو قصيرا قليلا، والعين مفتّحة لا تكاد تغمض كعين الرقيب، أو أشدّ اتساعا، أو كعين الجواسيس أو أشدّ دهاء.. والفم لا يسكت إلا إن غضب المعلّم وضرب بعصاه الطاولة..
بينوكيو لم يكن يعجبني رسمه ولم أقبل أن يصنع من خشب ويصبح شخصية بلحمها ودمها، وأعترف أنّ بينوكيو كان يخيفني على أنفي، فقد كنت أضطر في بعض الأحيان إلى الكذب هروبا من عقاب من لا رادّ لعقابه.
الأميرة النائمة تجعلك تكتشف أنّ هناك عوالم أجمل حتى إن كانت من رسوم. لم أكن أعرف أين تسكن الأميرة النائمة؟ جغرافيّتي كانت محدودة في ذلك الوقت، أعرف موقع منزلي من المدرسة ومن المكتبة، ومن دكان والدي ومن منزل جدي، وهذه أماكن متوزعة في جميع الاتجاهات.. صرت بفضل الأميرة النائمة أشعر بأنّ هناك عالما أرحب، وبتّ أقارن الوجوه بوجه الأميرة النائمة، بل بتّ أبحث عنها فلا أجدها.. حتى كان ذات مرّة: التفتّ فجأة فرأيت شبيها بها قريبا منها.. يا إلهي من أين جاءت؟ وأين ستذهب؟ وأين تدرس؟ هل ألحق بها؟ هل أحدّثها؟ أين هي؟ أين غابت؟ هل تبخّرت؟ نسيت الأميرة النائمة جمالها ونومها حتى رأيتها هذه الأيام في إحدى المدن البعيدة، رأيتها تسير كأنّها استيقظت للتوّ، وقفت هنيهة أنظر إليها لأتأكّد من أنّ الرسّام لم يترك شيئا من هذا الخلق إلاّ صوّره.. قلت لها بلكنة أجنبية: صحّ النوم.. ابتسمت.. اقتربت قليلا منها وهمست: أنت الأميرة النائمة؟ ابتسمت وقالت أجل.. قلت: أستعير سؤال جَميل: فكيفَ كَبِرْتُ ولم تكبري؟ قالت: كنت وقتها نائمة: نسيت أن أكبر! قلت: جواب حارت في وجوده بثينة. نزلت السلالم الكهربائية.. ظلّ عنقي إلى الخلف: سألت هل أنت إسبانيّ؟ أجبتها أنْ نَعم واكتفيت.. أنا قصدت أنّي كنت سأكون في إسبانيا لو أنّ أجدادي لم يغادروها مندحرين.. أسرعت أبحث عن مرآة عمومية لأرى ما في وجهي من ملامح إسبانيّة؟ رأيت لكنني فرحت حين وجدت أنفي عاديّا فقد خشيت أن يطول لأنني كذبت مثل بينوكيو.
بينوكيو لم يكن يعجبني رسمه ولم أقبل أن يصنع من خشب ويصبح شخصية بلحمها ودمها، وأعترف أنّ بينوكيو كان يخيفني على أنفي، فقد كنت أضطر في بعض الأحيان إلى الكذب هروبا من عقاب من لا رادّ لعقابه. كان سؤال الوالد من نوع أين كنت إلى هذا الوقت؟ فأكذب: كنت في دار جدّي. وأنا كنت مع عابر سبيل نتحدث في أشياء تافهة. وكان سؤال المعلّم هل قرأت دروسك البارحة؟ يدفعني إلى أن أكذب لأنّه لم يكن لنا إلا فانوس بترولي واحد يستعمل في غير مراجعة الدروس.. كنت أقول له لقد قرأت الدروس ونسيتها، وكان هذا القول عندي أفضل من أن أشكو عسر ذات اليد. كنّا نخجل من أن نشكو فقرنا لمن يدرّسنا، وكانوا يعلمون جيّدا أنّنا في عوز وأنّنا لا نقول الحقيقة. عندما تضيق بنا الدنيا ويعاقبنا أهلنا كنت أنا أتمنّى أن يحنو والدي عليّ مثلما يحنو نجّار بينوكيو على أخشابه التي يصنعها، لكنني بعد هنيهة من ذلك كنت أحنّ إلى أبي مثلما عطف بينوكيو على النجار حين وجده وقاربه في بطن الحوت. لم أكن أعرف أنّ الحياة العسيرة حُوت ابتلعنا بعدُ؛ لكنني كنت أحدس من والدي أنّه كان يغالب الدنيا فتغلبه، كما يغلب الحوت النجار وقاربه غير أنني كنت أحمد الله على دنيا الحوت التي لاقتني بأبي وبأمّي وأخوتي.
كان مشهد الأميرة النائمة قليلا في حياتي بيد أنّ مشهد بينوكيو كان في كلّ مكان.. كنت أراه في غالب الأوقات.. كانت الوجوه التي تعترضني حين كبرت بأنوف كبيرة في الغالب، كان كلما اعترضني أنف صحت يا بينوكيو! فلا يجيب أحد.. لم يكونوا ليعرفوا من يكون بينوكيو.. كنت أودّ أن أقابل بينوكيو الحقيقي، لأنني ما زلت أعتقد أنّ شخصيات القصّ تخرج إلينا بصورها وتبحث عنّا كي تلقانا وتسألنا بربكم: هل أنت من قرأنا؟ القراءة قليلة ونادرة والرسوم التي تنام في كتبها تحتاج من يفتح كُوّتها ويقرأ.
في ذلك اليوم الذي ترشحت فيه للانتخابات رأيت بينوكيو قال لي: إياك أن تقول ما لا تؤمن به.. عاهدته ولكنني حين قصدت الأميرة النائمة لتعينني كان أنفي قد طال..
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
نص من اجمل مايكون استاذنا .
من السينما القديمة ايضا كانت لنا في خيالنا اميرات هاربات من انوار شرائط مبثوثة خصوصا
–
الاميرات الهنديات ” راج كوماري ” فصورهن كانت كافية لطمس خديعة بصرية جميلة عشناها امدا
–
تحياتي