في غمرة ازدحام الأخبار الآتية من شمال أفريقيا، الجزائر وليبيا بصفة خاصة، وتطورات انتفاضة الشعب السوداني ضدّ نظام عمر حسن البشير، وإرهاب أجهزة عبد الفتاح السيسي والجماعات الجهادية في مصر؛ يبدو غير عادل تجاهل الأخبار الأخرى القادمة من الصومال وكينيا، حيث لا تضرب يد الإرهاب وحدها هناك، بل تتنازع البلدين أزمة مرشحة للتفاقم. وكانت معلومات صحافية قد أشارت إلى أنّ الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو (بناء على توصيات رئيس وزرائه حسن علي خيري، رجل النفط البارز) طرح عطاءات دولية لاستثمار 50 حقلاً للنفط والغاز، بعضها يقع في منطقة بحرية متنازع عليها مع كينيا؛ الأمر الذي دفع نيروبي إلى استدعاء سفيرها في مقديشو. رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد علي حاول جمع الرئيسين، الكيني أوهورو كينياتا والصومالي فرماجو، إلى طاولة مصالحة؛ انتهت إلى الفشل، إذْ قررت مقديشو إبقاء القضية أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي.
الحال قابلة للتطور إلى مراحل أكثر خطورة، بالنظر إلى التاريخ الشائك الذي جمع البلدين، وملفّ الإرهاب الذي يضعهما ــ للمفارقة! ــ على طرفَيْ اتفاق ونقيض، في آن معاً. بالأمس أعلنت الشرطة الصومالية أنّ سبعة مدنيين على الأقل قُتلوا إثر انفجار سيارة مفخخة في قلب العاصمة مقديشو، تبنّت مسؤوليتها حركة «الشباب» المتشددة. وفي مطلع هذا الشهر قُتل 35 وأصيب أكثر من 80 شخصاً في مقديشو، خلال حصار قوات الأمن الصومالية لإحدى خلايا الحركة الإرهابية ذاتها، التي نفذت هجوماً انتحارياً. وفي مطلع شباط (فبراير) الماضي أكد الجيش الأمريكي مقتل 35 مسلحاً في غارة جوية استهدفت «الشباب» وسط البلاد، قرب الحدود مع إثيوبيا. قبله، في أواسط كانون الثاني (يناير)، شهدت العاصمة الكينية نيروبي هجوماً شنته الحركة ضدّ مجمّع فندقي، أودى بحياة ستة اشخاص.
ورغم ما تداولته تقارير صحافية من رغبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تقليص الأنشطة العسكرية الأمريكية على أرض الصومال، تماشياً مع توجهات مماثلة بصدد القوات الأمريكية في سوريا وأفغانستان، فإنّ العمليات الأمريكية متواصلة بالشدّة ذاتها. وهذا يعيد نصاب الأمور في البلد إلى أصل فلسفة أمريكية قديمة عنوانها «الحملة ضدّ الإرهاب»، بدأت وتتعاقب ضمن الثنائية الخرقاء التالية: أغلقوا هنا ثغراً (أي: حاضنة!) للتشدد الإسلامي، الذي يهيئ المناخات، ويصنع ويصنّع موضوعياً، ظواهر التطرّف والإرهاب؛ وافتحوا، هناك، ثغراً جديداً لتشدّد مماثل، أو أدهى، بهوية مختلفة وأجندات ملتهبة. وفي الصياغة العملية اتخذت المعادلةُ الوجهة التالية: أغلقوا ثغور الإرهاب في أفغانستان (حيث الطالبان)، وفي العراق (حيث «قاعدة» الزرقاوي، و«داعش بعده)؛ وافتحوا ثغور «إرهاب» أخرى في الصومال (حيث «المحاكم الشرعية»)، وفي سوريا («النصرة، ثمّ «داعش» أيضاً)!
وفي ذروة انشغال الغرب، وبعض الجوار الإقليمي، بتنصيب فزّاعة «الصوملة» ضدّ الحركات الشعبية العربية المطالبة بالتغيير الجوهري، كانت ميليشيات «المحاكم الشرعية» تُحكم السيطرة على معاقل كبرى وتطرد أمراء الحرب، للمرّة الأولى منذ العام 1990. الترجمة الموازية لتلك الانتصارات كانت هزيمة القوّات التابعة لأولئك الذين ضمّهم «التحالف من أجل السلم ومكافحة الإرهاب»، المدعوم ــ مباشرة، وكما ينبغي أن يوحي الاسم! ــ من واشنطن. في الآن ذاته كان البرلمان الصومالي، وبعد انهيار المفاوضات مع الإسلاميين، يصوّت على مبدأ استقدام قوّات أجنبية لحفظ الأمن في البلاد.
تقتضي الذاكرة استدعاء مقاربة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، الذي ضخّ مئات الملايين من الدولارات لإغواء أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. فكيف لإرث الماضي ذاك ألا يعيد إنتاج عناصره في أحشاء الحاضر، والمستقبل أيضاً؟
بيد أنّ هذا الاعتبار الأساسي بالذات، أي حفظ الأمن وتسيير شؤون المواطنين في الجانب القضائي والأمن والحياة اليومية تحديداً، هو الذي كان البذرة الأولى التي أنبتت «المحاكم الشرعية» في الصومال؛ بعد انهيار الحكومة العسكرية سنة 1991، وشيوع الفوضى وأعمال الشغب والنهب المنظم والعنف المسلح والجريمة والخطف. وكان هذا الغياب للدولة، بمعنى الغياب التامّ لأية جهة قضائية قانونية في المقام الأوّل، هو الذي جعل الشيخ الأزهري محمد معلم حسن يؤسس أوّل محكمة شرعية محلية في أحد أحياء مقديشو الفقيرة. وغنيّ عن القول إنّ هدفه لم يكن يتجاوز الفصل في شكاوى الناس والتحكيم بينهم، اعتماداً ــ بالطبع، وفي ظلّ غياب أيّ قانون ــ على أحكام الشريعة الإسلامية. كذلك كان طبيعياً أن تنقلب هذه المحاكم إلى ما يشبه وزارة الظلّ، ثمّ فيما بعد وزارة الأمر الواقع، لشؤون العدل والداخلية.
وهكذا فإنّ «المحاكم الشرعية» لم تبدأ كدعوة إسلامية تبشيرية، أصولية أو وسطية أو معتدلة؛ ولم تتكئ على منطلقات دينية أو مذهبية أو سياسية ـ حزبية، أياً كانت تقاطعاتها مع مختلف أنساق الإرهاب المنظّم؛ ولم تعتنق برامج عمل تنظيمية أو جماهيرية، ولا سياسة تحالفات محلية أو إقليمية. لقد بدأت من الحاجة، الماسة المبدئية، لتصريف أمور الناس في ظلّ سيادة الفوضى وغياب الدولة وحاجة المواطنين إلى جهة مرجعية متماسكة نسبياً؛ ذات غطاء شرعي وقوام إداري وسلطة تنفيذية، ليس أكثر. وليس أقلّ أيضاً، في الواقع، لأنّ هذا الموقع الوظيفي الحيوي أتاح لرجال «المحاكم الشرعية» أن يلعبوا الدور الوظيفيّ الآخر التالي، الذي لا يمكن إلا أن يكون طبيعياً وتلقائياً وتحصيل حاصل: الهيمنة السياسية، وتشكيل ذراع عسكرية ضاربة هي حركة «الشباب»، دون سواها!
الجانب الأخرق في المعادلة الأمريكية كان الظنّ بأنّ الصومال، من حيث التاريخ والعقيدة والوقائع، أفقر من أفغانستان لجهة اجتذاب حواضن التطرّف الإسلامي، الذي ينتهي بعضه إلى أنساق الإرهاب ذاتها التي قوّضت برجَي نيويورك في 9/11. ولم يكن خبراء البيت الأبيض بحاجة إلى مَنْ يذكّرهم بأنّ تلك الصومال التي كانت توشك على الولادة قد تصبح أفغانستان ثانية؛ ولهم، في تاريخهم هناك، دروس وعِبَر! ففي أواخر العام 1992، حين رست أولى قطع الأسطول الحربي الأمريكي على شواطىء الصومال، تردد أنّ السفير الأمريكي في كينيا استقبل وحدات بلاده بهذه العبارة الصقيعية القاتلة: «إذا كنتم قد أحببتم بيروت، فلسوف تعبدون مقديشو». أي، في ترجمة أوضح ربما: إذا كانت بيروت (خصوصاً بعد العمليات الانتحارية، وانسحاب المارينز المهين) هي النار، فإنّ مقديشو هي سقر!
المشهد الصومالي اليوم مختلف، جيو ـ سياسياً على وجه الخصوص، ولكنه ليس متحوّلاً على نحو يتيح استبعاد الاحتمالات القصوى لانقلاب آبار النفط والغاز على حليف طبيعي لإرهاب «حركة الشباب»؛ ليس ضدّ سلطة فرماجو ورئيس وزرائه النفطي خيري، فحسب؛ وليس توغلاً نحو بقاع الـ»صومالي لاند»، حيث تتصارع استقطابات إقليمية ودولية شتى، فحسب أيضاً؛ بل كذلك نحو جيران متضررين اليوم (كينيا)، أو على قائمة الضرر غداً (إثيوبيا وجيبوتي)… ويُستذكر هنا أنّ كينيا تعاني من مشكلات اجتماعية ــ اقتصادية عميقة الغور، تكشّف الكثير من عواقبها خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والصراع بين الرئيس الحالي كينياتا ومنافسه مرشح المعارضة رايلا أودينغا. غير أنّ الهامّ، أيضاً، هو حقيقة أنّ البلد ميدان إقامة وتدريبات الـ»أفريكوم»، القيادة العسكرية الأمريكية الخاصة بأفريقيا؛ وهذا اعتبار وضعها نصب أعين رجال «القاعدة»، منذ آب (أغسطس) 1998 حين استُهدفت السفارة الأمريكية في نيروبي فسقط 213 قتيلاً وقرابة خمسة آلاف جريح.
ولكي لا يغفل المرء واجب التفتيش عن أمريكا في خلفية معضلات القرن الأفريقي، ومآسيه أيضاً، تقتضي الذاكرة استدعاء مقاربة الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، الذي ضخّ مئات الملايين من الدولارات لإغواء أسوأ دكتاتوريي القارّة، في ليبيريا وكينيا والصومال وزائير وسواها. فكيف لإرث الماضي ذاك ألا يعيد إنتاج عناصره في أحشاء الحاضر، والمستقبل أيضاً؟
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس