تحاول الولايات المتحدة الأمريكية؛ بث الدفء في علاقتها مع الصين، التي شهدت في الفترة الأخيرة برودة اعتراها الكثير من المطبات. وزير خارجية الصين وصف تلك العلاقة بأنها هي الأدنى مستوى، في السنوات الأخيرة، فقد انقطع إلى حد ما الاتصال المباشر بين الدولتين وشابها الكثير من الغموض وعدم الثقة. زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأخيرة للصين؛ كان هدفها، هو تجسير منطقة الفراغ بين الدولتين، وتأمين الاتصال والتواصل بينهما، لدرء أي سوء فهم، وأي خطأ في تقدير الموقف من قبل الطرفين، وأيضا محاولة أمريكا إبعاد الصين ولو بدرجة ما عن روسيا.
مما يلفت الانتباه أنه ما أن انتهت زيارة الوزير الأمريكي للصين، إلا ووصف الرئيس الأمريكي في تصريح له مؤخرا؛ مثيله الصيني بالديكتاتور. لم تتأخر الخارجية الصينية في الرد على الرئيس الأمريكي، على لسان الناطقة باسمها؛ التي قالت فيه؛ إن قول الرئيس الأمريكي هذا، استفزاز متعمد وإهانة للكرامة الصينية. إن كلا الدولتين لا يمكنهما أن تثقا بسياسة كل منهما اتجاه الأخرى، بطريقة متبادلة؛ لأن أهدافهما وخططهما مختلفة جدا، إنما من الجهة الثانية ليس أمامهما، على الأقل في الأمد المنظور إلا إيجاد منطقة تفاهم مشتركة في حدودها الدنيا؛ التي بها تمنعان أي سوء فهم من الاستمرار والتوسع والتراكم؛ الذي إن استمر سوف يعمق التباعد بينهما، وقد يقود إلى الصدام المباشر مستقبلا.
ليس أمام أمريكا والصين، على الأقل في الأمد المنظور، إلا إيجاد منطقة تفاهم مشتركة في حدودها الدنيا؛ تمنعان بها أي سوء فهم من الاستمرار والتوسع
أما محاولة أمريكا سحب الصين عن مساحة المشتركات بينها وبين روسيا؛ فأعتقد أن هذا امرٌ قد يكون مستحيلا. القيادة الصينية تعلم يقيناً؛ أن أمريكا تنظر لها مستقبلا، وحتى حاضرا، كمنافس قوي على جميع الصعد، وتشكل خطرا مستقبليا، على هيمنتها على مراكز صناعة القرارات الدولية في العالم. هذا ليس سرا؛ إذ أن المسؤولين الأمريكيين يصرحون علنا به هذا أولا، وثانيا تدرك الصين؛ أن أمريكا تحاول بمختلف الوسائل تطويقها، أو تطويق ومحاصرة برامجها في الحزام والطريق، وثالثا محاولة أمريكا فتح جبهات مشاغلة معها في بحر الصين الجنوبي والشرقي، وفي المحيطين الهادئ والهندي وفي آسيا الوسطى، وفي المنطقة العربية وجوارها. أمريكا من جانبها هي الأخرى تدرك وتتوجس من نمو الصين عسكريا وتجاريا واقتصاديا، وتنمية شراكاتها وعلاقاتها مع بقية الدول في المناطق سابقة الإشارة لها، في برامجها في الحزام والطريق. إن الذي يدفع أمريكا إلى التفاهم مع القيادة الصينية في هذا التوقيت؛ هو وضع كوابح، أو التفاهم معها حول عدم دعم روسيا عسكريا، ولو بطريقة سرية، وأيضا تجنب زيادة مساحة التباعد بينها وبين الصين، وربما لاحقا؛ الصدام بينهما. ففي الفترة الأخيرة، وبالذات عندما قامت أمريكا بإسقاط المنطاد الصيني، الذي تقول عنه أمريكا بأنه منطاد للتجسس، بينما الصين تقول عنه إنه للأغراض العلمية، وأيضا الدعم الأمريكي السياسي والاقتصادي والعسكري لتايوان؛ دفع الصين لتغيير سياستها العسكرية تجاه تايوان؛ بالطائرات التي أخذت في مناوراتها المستمرة، الدخول في مجال الدفاع الجوي التايواني، الذي لم تدخل في السابق إليه بهذه الأعداد وبهذه الوتيرة المستمرة، وأيضا السفن الصينية الحربية، التي أخذت تقترب، أو تطوق سواحل الجزيرة؛ حتى أنها أخذت تمنع السفن الحربية الأمريكية من الاقتراب من المياه الإقليمية للجزيرة، التي هي حسب القانون الدولي؛ مياه إقليمية صينية. أمريكا والصين تريدان؛ فتح قنوات اتصال دائمة منعا لتراكم وتوسع هذه الأخطاء وسوء الفهم بينهما، ووفقا لهذه الحسابات من الجانبين الأمريكي والصيني؛ اعتقد من وجهة نظري؛ أن أمريكا حتى لو أن الصين قامت باجتياح الجزيرة سوف لن تتدخل لحمايتها، كما أن الصين لن تقوم بإعادة الجزيرة، إلى البر الصيني الأم في الوقت الحاضر، وفي الأمد المنظور على الأقل. لكن أمريكا في المقابل؛ تقدم دعما عسكريا لتايوان، وفي جميع الأصعدة الأخرى، وفي الوقت ذاته تلتزم لفظيا بسياسة الصين الواحدة على قاعدة الغموض الاستراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه الصين، كما تقول عنها الصحف الأمريكية «الواشنطن بوست» مثلا. بعد أيام قليلة من انتهاء زيارة وزير خارجية أمريكا للصين، في 22 يونيو/حزيران 2023؛ تم إبرام اتفاقية للتجارة بين أمريكا وتايوان؛ لتعزيز وتوسيع وتعميق التجارة بين الدولتين، بما يتناقض تماما مع سعي أمريكا إلى تهدئة الأجواء مع الصين، التي يستفزها الدعم الأمريكي لتايوان. أما اذا تمعنا في السياسة الصينية؛ بقراءة عميقة، نلاحظ أن الصين ليست في عجلة من أمرها في ما يخص سعيها إلى إعادة تايوان إلى البر الصيني الأم؛ لمعرفتها أن الزمن يعمل لصالحها من ناحية الحرب في أوكرانيا. إن النتائج التي سوف تتمخض عنها هذه الحرب؛ إذا ما انتهت لصالح روسيا؛ سوف يكون لها تأثير في هيمنة أمريكا على العالم وعلى أوروبا، وأيضا؛ ستلقي ظلالها على الأوضاع في جزيرة تايوان. فإن نجاح العملية الخاصة الروسية (حسب التسمية الروسية)، لهذه الحرب، وتحقيق روسيا ما تريد وما تسعى إليه من نتائج؛ سوف يؤثر في موقع صدارة الولايات المتحدة في العالم، ومن ثم إزاحتها عن هذه الصدارة لصالح عالم عادل جديد بدأ يتبلور. هذه التطورات إن قيض لها وتحولت إلى واقع؛ ستؤثر في دعم أمريكا لتايوان، حكما وكنتيجة لا بد منها. كما أن هذه التطورات المفترضة؛ ستفتح الطريق واسعا وسالكا للصين لاستعادة الجزيرة، أو ضمها لها، سواء باستخدام القوة بشقيها الناعم والخشن، حسب تطورات وتبدلات الأحوال والظروف؛ لأن هذه التطورات أيضا سوف تؤثر تأثيرا بالغا، معنويا ونفسيا، في الداخل التايواني لصالح وحدة البر الصيني مع الجزيرة التايوانية. عليه فإن العلاقات الصينية الأمريكية لا يمكن لها أن تكون على حساب علاقات الصين أو شراكة الصين مع روسيا، لأنها لا تفيد مصالح الصين، تكتيكيا واستراتيجيا. أما الحديث عن تبريد أو تهدئة العلاقات الصينية الأمريكية؛ فمهما قيل عنها، أو أنها علاقات متلائمة على قاعدة التنافس المشروع من دون التصادم والاحتكاك ولو بالإنابة أو بالوكلاء؛ فهو أمر أو واقع مرحلي تفرضه ظروف الصين وخطط الصين الطموحة في الاستثمار المكثف للزمن. كما أن أمريكا هي الأخرى تعرف وتدرك تماما اتجاهات السياسة الصينية حاليا ومستقبليا؛ لجهة التكتيك الصيني المبرمج والمدروس بما يجب أن تكون عليه مفاعيله، الخالية من المماحكات والاشتباكات، لصالح الخطاب السياسي والاقتصادي الصيني اللذين يتمحوران على محور يركز على الحوار والمفاوضات والوساطات لإيجاد حلول للنزاعات الإقليمية والدولية؛ الوساطة الناجحة بين إيران والسعودية، وخطة الصين لوضع حلول مرضية لطرفي الحرب في أوكرانيا. هذا التكتيك الصيني تستخدمه الصين باستمرار وعلى قدر إمكانها، وبما تسمح به ظروف الصراعات في العالم؛ في بناء وتأسيس قواعد صلبة لها في جميع جهات المعمورة؛ تخدم الاستراتيجية الصينية. لذا، فإن أمريكا تستخدم التكتيك ذاته، إنما بطريقة معاكسة، تصلّب دفين ومرونة ظاهرة. عليه؛ تظل هذه العلاقات، علاقات تهدئة مرحلية؛ تحمل في داخلها؛ عوامل التصادم والاحتكاك، ولا أقصد هنا هو التصادم العسكري المباشر والمفتوح، فهذا أمر بعيد جدا، إن لم أقل إنه مستحيل بما يحمل من كوارث وفناء لكليهما. يدرك الندان؛ أن لا سبيل لمعالجته إن حدث، وهو ربما وربما كبيرة جدا؛ لن يحدث..
كاتب عراقي