الصين بلاد التنين المستيقظ

حجم الخط
0

كثيرا ما خططت لزيارة الصين لكن لسبب أو لآخر كانت تؤجل رحلتي هذه، رغم زياراتي المتعددة لعدد من بلدان الشرق الآسيوي، لكن يمكنني القول إنني زرتها مجازا، فقد قطعت أراضيها طائرا أكثر من مرة، حلقت فوق أجوائها كثيرا، وكثيرا ما انتبهت للخريطة المعروضة أمامي على شاشة الطائرة؛ «الطائرة تحلق الآن فوق الأجواء الصينية». انتبه دائما للمفارقة؛ فالطيران حلم البشرية الغرائبي الأزلي، الذي تحقق، وها آنذا الآن استمتع بتحقيق هذا الحلم، وأطير؛ ليس بجناحين من ريش، لكن محشورا بعلبة طائرة؛ أجتاز من خلالها أرضا تحمل طبيعة هائلة من التباينات الجغرافية، وملايين لا تحصى من الأنشطة البشرية.
أزعم أيضا أني رأيت الصين، رأيتها من خلال سلسلة وثائقية تذاع على القناة الصينية الناطقة بالعربية «فيلم من مئة جزء عن الصين» هذه الوثائقية كانت بالنسبة لي آداة معرفية مهمة، لأنها ترسخ في مخيلتي للصين الثاوية في الذاكرة؛ الصين العميقة، غير الطافية على السطح؛ والثقيلة بفعل التراكمات التاريخية الهائلة التي مرّت عليها. صين الحكمة والفلسفة التي صنعت على مهل؛ عبر القرى وضفاف الأنهار والغابات، والمعابد القديمة.
الدولة التي صنعت نهضتها الحديثة بمقاييس خاصة، مقاييسها هي وحدها، ونجحت فيما عجزت عنه دول أخرى، تبنت وجهات النظر السياسية والاقتصادية نفسها، لذلك فإن البحث عن سر هذه النهضة، والنماذج النهضوية الناجحة عموما، واجب حتمي وفريضة الوقت.

الشيوعية في بلاد الصين

في عام 1921 أُسس الحزب الشيوعي الصيني في مدينة شنغهاي على أسس ماركسية لينينة تستلهم، في البداية، روح الثورة البلشفية الروسية 1917. تم تأسيس هذا الحزب على يد اثنى عشر قائدا، منهم ماو تسي تونغ، الذي سيبزغ نجمه لاحقا في المراحل التالية، عبر اشتراكه في ما عرف بانتفاضة خريف الغضب عام 1927، وانخراطه بعد ذلك مع الحزب في دائرة الحرب الأهلية، وإسهامه في تأسيس الجيش الصيني الأحمر، الذراع العسكرية للحزب الشيوعي. في بداية الحرب الأهلية دخل الحزب في متوالية من التحالفات والصراعات مع المجموعات المتقاتلة، وحقق انتصارات نسبية في البداية، لكن في عام 1934 مُني بخسارة هائلة، فقرر التقهقر والرحيل ناحية الجنوب في رحلة أشبه بالأساطير حرفيا، إذ رحل أكثر من مئة وعشرين ألف منتسب للحزب الشيوعي من رجال ونساء وأطفال، في رحيل جماعي عابر لآلاف الكيلومترات، ولعشرات الأنهر، والجبال، والوديان، في مسيرة بدت وكأنها رحيل طوباوي نحو يوتوبيا مفقودة.

فالعمل الذي أعلت من قيمته الفلسفات القديمة في الشرق الأقصى عموما هو جزء من تكوين الإنسان هناك.. إنه نمط ثقافي متفرد. الشرق آسيوي عموما لا يعمل فقط لسد احتياجاته الأساسية، أو حتى من أجل ثرائه، العمل قيمة بحد ذاتها، وإتقان العمل فرض حتى نهاية العمر.

هذه الرحلة التي تشبه الأساطير رفعت ماوتسي تونغ إلى مرتبة القادة التاريخيين، ومكنته من الهيمنة والتحكم في مفاصل الحزب الشيوعي، الذي نجح لاحقا في حسم نتيجة الحرب الأهلية لصالحه؛ ليعلن ماو في عام 1949 تأسيس جمهورية الصين الشعبية. كان ماو يدرك منذ البداية اختلاف طبيعة الصين الجوهرية، عن الدول الشيوعية الأخرى، فالصين دولة زراعية بامتياز، لذا كانت نقطة البداية هي تأميم الأراضي، وإعطاؤها للفلاحين، والعمل على إنشاء وحدات قروية إنتاجية صغيرة، مستلهمة روح كوميونة باريس – المثال النقي في السرديات الشيوعية التقليدية – هذه السياسات التأميمية أدت في البداية إلى حالة من الرخاء النوعي، جعلت ماو يطلق ما سماه بالقفزة الكبرى للأمام، وهي القفزة التي أخفقت لعدة أسباب، منها؛ تحكم البيروقراطية اليمينية الكامنة في ثنايا الدولة آنذاك، وتحالفها أحيانا مع بقايا القوى الرجعية، إلى جانب أخطاء في التنفيذ، لم يخجل الحزب الحاكم نفسه من الاعتراف بها بعد ذلك، والاعتذار عنها.
النتائج غير المتوقعة للقفزة الكبرى للأمام، جعلت ماو يستبصر خطرا آتيا في الأفق على الدولة، فاطلق في عام 1966 الثورة الثقافية، التي أراد لها أن تكون حربا شاملة للتطهير والنقاء الثوري، لكنها للأسف وقعت في تجاوزات لم يخجل الحزب الشيوعي من الاعتراف بها والاعتذار عنها أيضا. هذه التجارب المختلفة التي مرت بمتوالية لا يمكن حصرها من الاخفاقات والنجاحات، صهرت على المستوى التنظيري لما عُرف بعد ذلك بالماوية، أو ما يمكن تسميته بما بعد الماركسية، التي اسْتَلهم روحها بعد ذلك، العديد من الحركات والأحزاب الشيوعية عبر العالم شرقه وغربه.
في عام 1976 توفي ماو تسي تونج، وصعد بعده إلى سُدة الحكم دينغ تشايبنغ، وهو زعيم من قيادات الحزب التاريخية، تنتمي أسرته إلى سلالة نبيلة، كما أنه رافق ماو في المسيرة العظيمة عبر الجبال. دينغ تشايبنغ كان يحمل نفسا فلسفيا تأمليا اكتسبه عبر سنوات من العزلة والتفكير في مستقبل الصين، لذلك في فترة حكمه تبنى إصلاحات اقتصادية هائلة، توجها في عام 1986 بما عرف بسياسة الباب المفتوح، وتبنى اشتراكية السوق، وهي اشتراكية جماعية، تعني امتلاك الجماهير؛ أو قطاعات منها لوسائل الإنتاج حسب متطلبات السوق؛ ويعود هامش الربحية بشكل مباشر إلى الموظفين؛ وبشكل غير مباشر إلى خزينة الدولة؛ وهي الآلية التي أثبتت نجاعتها.

سر المعجزة

هذا السرد الآنف هو حكاية الشيوعية في الصين، لكنه لا يفسر سر المعجزة، الأشياء لا تُفسر إلا بروحها الكامنة فيها، وما بين السطور. وما بين السطور يقول: بأن النسخة الشيوعية الصينية هي نسختها وحدها؛ التي اهتدت إليها عبر متوالية من الإخفاقات، والإفاقات، والقراءات المستمرة والمصححة لمسار التجربة، التي دُفعت ضريبتها غاليا جدا، من الدماء والنضال عبر السنوات الطويلة. كانت وحدها التجربة التي كان الجميع فيها (الرفقاء/ الفرقاء) يحاولون البحث عن المسارات الصحيحة من داخل البيت العقائدي نفسه؛ وليس من خارجه، وهو ما يفسر حالة الاحتفاء الرسمية، والشعبية بالرفاق، الذين قضوا نحبهم موتا في الميادين، مناهضين أحيانا للسلطات القائمة، ولوجهات النظر الرسمية. تمت مسامحتهم، وعوملوا تاريخيا كرفقاء مجتهدين، لا أعداء مقوضين للدولة وهياكلها. لذلك هي نسخة مكتوب عليها صنع في الصين؛ لأنها نجحت في التحرر من الأرثوذكسية الشيوعية العالمية، وتحررت من كل الدوغمائيات الشيوعية السلفية؛ سواء أكانت ماركسية؛ أو لينينية؛ أو حتى تروتسكية، وصنعت لنفسها مسارها الخاص المبتعد عن القراءات الحرفية للنصوص، والمراعي للمساقات الاجتماعية، والتاريخية، والفكرية لديها، وهو الشيء نفسه الذي يفسر الانهيارات المتتالية للتجارب الشيوعية في كثير من البلدان الأخرى، لأن هذه التجارب؛ لم تراع مساقاتها، فولدت تجاربها ولادة قصرية، تحمل عوامل موضوعية لموتها بالتقادم. كان ينبغي معرفة، أن قليلا أو كثيرا من المرونة الفكرية في الطرح والتنفيذ، مهم جدا وشرط للنجاح.

الإنسان سر الأسرار

يمكننا الآن في النهاية القبض على السر؛ إنه الإنسان؛ الإنسان نفسه هو سر الأسرار
فالعمل الذي أعلت من قيمته الفلسفات القديمة في الشرق الأقصى عموما هو جزء من تكوين الإنسان هناك.. إنه نمط ثقافي متفرد. الشرق آسيوي عموما لا يعمل فقط لسد احتياجاته الأساسية، أو حتى من أجل ثرائه، العمل قيمة بحد ذاتها، وإتقان العمل فرض حتى نهاية العمر. وهو ما يفسر ظاهرة عمل العجائز الطاعنين في السن في مهن شاقة، في الحقول والمراعي وأعالي الجبال هناك، لذلك فإن عناصر هذه المعادلة هي كالتالي: منظومة من قيم حضارية غير متحفية، ولا متباهية بالماضي العريق؛ وأيديولوجيا ليست صاخبة ولا جامدة؛ ثنائية تزاوجت زواجا ناجحا، فشكلت الوعي الجمعي وصهرته؛ لذلك نجحت في تحويل مئات الملايين من البشر إلى وقود معركة إثبات الوجود، بدلا من أن يكونوا رقما بشريا وعالة عليها. لهذا فإن السنوات المقبلة ستشهد تغييرا جذريا – باتت تتضح معالمه – على مستوى تشكيل القرار العالمي، ستصبح الصين فيه رقما أكثر صعوبة مما هي عليه الآن؛ رقما لا يمكن للغرب تجاوزه.
هذا ما ستنبئ عنه الأيام المقبلة.

٭ كاتب وإعلامي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية