الصين وأمريكا من منظور النسيج التنظيمي العالمي والواقعية السياسية

وصل التوظيف السياسي لأزمة الجائحة العالمية من قبل دونالد ترامب، حد الدعوة إلى «تحرير بعض الولايات الأمريكية» التي يحكمها ديمقراطيون، في تحريض مباشر على التمرد وخلق الفوضى، ما جعل بعض وسائل الإعلام الأمريكية تطلق وصف «الحرب الأهلية الأمريكية الحديثة» على الصراع الدائر بين ترامب وحُكام الولايات الديمقراطيين الرافضين دعواته لفتح البلاد.
وعبر تغريداته المثيرة للجدل، يعتقد الرئيس الأمريكي، الذي لا يرغب في وقف حملته الانتخابية، أن تصدير فشل إدارته الفادح في مواجهة الفيروس نحو الخارج، عبر اتهام الصين ومهاجمة خصومه من الحزب الديمقراطي في الوقت ذاته، كفيلة بتحصيل مكاسب سياسية في المعركة الانتخابية المقبلة. وفي الوقت الذي يُبقي فيه العالم على قيود مشددة، قدر الإمكان لمواجهة تفشي العدوى ومحاصرة الوباء، يميل ترامب بشدة نحو الاستمرارية الاقتصادية، ورفع الحجر على حساب الوضع الصحي العام، باستخفاف ملحوظ تنعدم فيه الاستراتيجية الواضحة، بشكل يراكم استهتاره بالوباء منذ البداية والتقليل من أهمية الخطر الصحي الذي يشكله، والتأخر في اجراء الفحوصات الذي جعل من الصعب تقييم مدى انتشار الفيروس على الأراضي الأمريكية، وانتهى الأمر بتوجيه السلطات الصحية رسالة مفادها «الأسوأ مقبل في الولايات المتحدة».
ومع إعلان الرئيس الأمريكي عن تجميد تمويل منظمة الصحة العالمية بزعم «انحيازها للصين»، يزداد النزاع بين واشنطن وبكين، وينبئ بغياب التضامن العالمي، وسيطرة التوترات الدبلوماسية، فقد هيمن التنافس بدل التعاون، في وقت كان على الجميع أن يصطفوا في جبهة واحدة لمواجهة تفشي كوفيد 19، الذي يهدد البشرية جمعاء. ومن المؤكد أن الصدع الذي حدث بين دول الاتحاد الأوروبي، وصدمة القرارات وانقسام المواقف، سيؤثر في مستقبل هذا التحالف، الذي اكتشف أعضاؤه مؤشرات سلبية للتضامن الأوروبي. إنه اللاوضوح الجديد، الذي عبر عنه يورغن هابرماس في نقده لطروحات دولة ما بعد الحداثة، واعتبر أنه ينتمي إلى وضع تفقد فيه برنامجية «دولة الرخاء»، التي مازالت تتغذى من طوبى المجتمع العمالي، القدرة على أن تمنح فرصا مقبلة لحياة جماعية أفضل، وأقل تعرضا للخطر. وهي الثقافة السياسية المرتبكة التي تتنافس في ما بينها بواسطة تحديداتها للواقع، حول ما سماه أنطونيو غرامشي «هيمنة حضارية»، ومن حاصل مضامين ثاوية، اعتبر روبرت كوكس ضمن سياقاتها أن كل السياسيين يتحركون إلى المركز، ليتنافسوا على أساس الشخصية، ومن هو الأكثر قدرة على تدبير التكييف اللازم في الاقتصاد والمجتمع، لحفظ القدرة على المنافسة في السوق العالمية، أما مفهوم اقتصاد ومجتمع بديل فهو مُقصى تماما عن هذا السياق.
لقد ضاق أفق المستقبل وغيّر بذلك روح العصر والسياسة معا تغييرا جذريا. وبالفعل تحقق تشخيص حنة آرندت، بأن مسلوبي الحقوق واللاجئين، والذين لا أوطان لهم، سيكونون العلامة المميزة للقرن العشرين، بمقدار يثير الرعب، بمثل ما تأكد تصور هابرماس، من أن حيز المستقبل تشغله السلبيات. فقد ارتسمت على عتبة القرن الحادي والعشرين أيضا مناظر الرعب الذي يهدد اهتمامات الحياة العامة في العالم بأسره، لولب التسلح المنفلت، وانتشار الأسلحة النووية غير المضبوط، والافتقار البنيوي الذي تعاني منه البلدان النامية، وفقدان التوازنات الاجتماعية، ومشاكل البطالة وتلوث البيئة، والتكنولوجيات الضخمة، التي تقارب الكارثة في عملها. وهي التعابير الأساسية التي تقتحم عبر وسائل الإعلام وعي الرأي العام، ولا تقل أجوبة المثقفين عن أجوبة السياسيين حيرة تجاه الوضع الراهن.

أزمات اقتصادية حادة ليس من السهل أن تخرج منها الدول بأضرار طفيفة، من دون انفتاح وعمل جماعي وتضامن عالمي

وبخصوص مسألة التراجع الأمريكي المطلق عوضا عن النسبي، فإنه من المهم في ما وراء «الحكمة التقليدية الحالية»، التي تسارع إلى إعلان تفوق دولة على أخرى وتراجع الريادة العالمية لدول بعينها، أن لا ندع «التفضيلات هي التي تقرر التحليل» بتعبير جوزيف ناي. وعلى نحو ينهل من الواقعية السياسية والاقتصادية والثقافية، فإن أمريكا ليست في تراجع مطلق، والصين ليست في تصاعد مطلق أيضا، وعلى الأرجح سوف تتقلص هيمنة الولايات المتحدة، وتفوقها الاقتصادي والثقافي مقارنة ببداية هذا القرن. فهي تواجه منذ سنوات مشكلات خطيرة في بعض المجالات مثل، الديون والتعليم والاحتقان السياسي، ونظام التغطية الاجتماعية والرعاية الصحية، التي ازدادت وضوحا مع أزمة الجائحة الحالية، وكل ذلك هو فقط جزء من الصورة السيئة التي يحاول مفكرون أمريكيون كبار، التنبيه إليها ودق ناقوس خطرها منذ فترة.
ومن المؤكد أن من بين المسائل السلبية في السياسة الأمريكية في العقدين الأخيرين، وربما ستتواصل في المستقبل، أنها تبالغ في رد فعلها تجاه «الهجمات الإرهابية» أو ما تدعي أنه كذلك، وتندفع نحو حروب خارجية مُكلفة، كالتي حدثت في أفغانستان والعراق، وهي بذلك تُبعد نفسها عن القوة التي حصلت عليها من الانفتاح الليبرالي الديمقراطي، كسياسة متبعة أواخر القرن العشرين.
ومسألة التنافس بين واشنطن وبكين، قد ترتبط مستقبلا بالقدرة على تماسك الأحلاف والتكتلات الجيوستراتيجية، ونجاح سياسات الجمع بين الإصلاحات الداخلية وفاعلية «الاستراتيجيات الذكية»، لتحويل الموارد الأمريكية أو الصينية إلى قوة خارجية نافذة، خالية من مركبات إمبريالية، ومن غرور الاحتفاظ بالهيمنة، من دون العمل على إيجاد الأساليب، التي تجمع الموارد في مخططات ناجحة في السياق الجديد والمتجدد للنظام العالمي، الذي يشهد بوادر صعود دول وتراجع أخرى، بمثل ما يعرف أزمات اقتصادية حادة ليس من السهل أن تخرج منها الدول بأضرار طفيفة، من دون انفتاح وعمل جماعي وتضامن عالمي.
كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية