عدَّ ميشيل بوتور الرواية الجديدة أطروحة بحثية، تستدعي التفكير؛ فهي لا تحاكي الواقع ولا تعكسه، بل خداع ووهم لا يمكن التثبت من صحته وهذا ما يجعلها نوعا من الشعر، تتبدل فيه الضمائر وتتراكب. وهذا ما أوصله إلى بعض النتائج المختلفة والجديدة، منها أن ما ينقله الروائي إلينا بصيغة الغائب هو غير ما يمكن أن يقال لنا بصيغة المتكلم. وإذا كان ضمير الغائب هو أساس صيغ الحكي، فإن خيالية القصة وتدخل الضمائر الأخرى والتمييز بينها يُفقد الرواية كثيرا من الصلابة، التي يمكن أن تتحلى بها في الحياة اليومية. وأن الكاتب في حالة استعمال ضمير الغائب، يجيب عن سؤال: لماذا لا يعرف أحد غير السارد كل شيء؟ أما الكاتب في حالة استعمال ضمير المتكلم، فإنه لا يجيب عن هذا السؤال. ومن ثم هناك ماض منقطع عن الحاضر. وإذ افترض بوتور أن الضمير في الحوار الداخلي مغلق، لأن المرء يروي ما يعرفه، فإنه أيضا اهتم بالإجابة عن سؤال: كيف السبيل إلى فتح هذا الضمير؟
إن هذا التبدل في استعمال الضمائر، يولِّد تفاوتا داخل الرواية يصفه بوتور بأنه طبقي، فضمير الأنا من طبقة الملوك والعظماء، وضمير الغائب من العامة (طبقة الذين نعرف أعمالهم وحركاتهم والذين يفترض أن يعرفهم أي شخص كان) أما ضمير المخاطب فمن طبقة المتهمين والمشبوهين الذين لا يريدون الإدلاء بشهاداتهم. وهذا ما يجعل السارد ضابط بوليس ـ كما يرى بوتور- والمسرود مشتبها به في قضية جنائية يراد منه الكشف عما يخفيه من معلومات أو ما لا يريد الإفصاح عنه، على فرضية أن هذا المسرود يعرف القصة كاملة، لكنه لا يريد أن يحكيها، أو بالعكس هو لا يعرف القصة ولو عرفها لحكاها كاملة بضمير الأنا، أو هو مثل الطفل ما يزال عاجزا عن الكلام. وإذا كان هذا التوصيف الطبقي لعمل الضمائر منطقيا من الناحية النظرية، فإنه غير ذلك تطبيقيا، بدليل المثالين اللذين ساقهما بوتور؛ الأول هو يوليوس قيصر الذي استعمل في كتابة سيرته ضمير الغائب، وفسَّر بوتور السبب بالمغزى السياسي لأن قيصر لم يرد أن يكون شاهد عيان، والمثال الآخر هو ديكارت الذي استعمل في سيرته ضمير المتكلم، وفسّره بوتور بأنه نتاج الرغبة في تقديم قصة وهمية فيها خداع الحواس ومغامرة أراد ديكارت من القارئ أن يعيشها.
ومن أجل حل إشكالية هذا التفاوت بين النظر والتطبيق، افترض بوتور أن ما دامت الضمائر في حالة تبادل فجميعها (يمكنها أن تتحول إلى ضمير غائب غير مميَّز.) وأن عمل الضمير الأساس هو أن يتيح للأشخاص أن يتكلموا، فتظهر علاقات الكاتب مع القارئ والعالم بصورة أفقية. وبهذا يعود بوتور إلى النقطة نفسها التي انطلق منها، وهي أن التبدل حاصل في عمل الضمائر الثلاثة (هو، أنت، أنا) إفرادا وجمعا، متغاضيا بذلك عما لضمير المخاطب من استثناء. ومن ثم بقيت الإشكالية قائمة في من يُسند إليه الكلام (السارد) ومن يتلقاه (المسرود) من ناحية مصادرة المخاطِب حق المخاطَب في أن يكون متحاورا. الأمر الذي يعني إلغاء دور المسرود له، فيبدو كأنه غير حاضر، ولا مكمل للعملية السردية بصفتها فعل تحقيق استنطاقي مع المسرود.
ولم يأتِ بعد بوتور منظر عُني عناية خاصة بموضوعة الضمائر عامة، وضمير المخاطب خاصة، بل بقي التنظير دائرا في إطار البحث عن الفواعل، ووضع الترسيمات السيميائية دون تشخيص أي إشكالية؛ فجان لينتفلت مثلا، رأى أن من مقتضيات النص السردي بالتصور التداولي وجود مؤلف واقعي، وآخر مجرد هو الأنا العميقة للأول، يقابله سارد خيالي وممثل فاعل وقارئ واقعي وآخر مجرد ومسرود له خيالي وعلاقته بالسارد غير مباشرة إلا إذا ناداه. وأن المسرود له ليس القارئ المجرد ولا هو القارئ الواقعي.
ويعد الناقد الكندي هيلمت بونهام Helmut Bonheim من أوائل من اهتموا بدراسة ضمير المخاطب خاصة، وموضوعة الضمائر عامة بكتابه الموسوم (السرد في ضمير المخاطب)1983، وفيه دلل على كيفيات اختلاف عمل ضمير المخاطب عن عمل ضميري الغائب والمتكلم، وبيّن أن لا إشكالية في عمل السارد بضمير الـ(أنا) كونه يظهر بشكل واضح بوصفه شاهدا وبطلا وهو المرجع، أو مصدر المعلومات، أما السارد بضمير الـ(هو) فيتحدث عادة عن شخص هو بطل في المقام الأول، بيد أن الغرابة تكمن في عمل ضمير المخاطب، الذي لا يثبت على صيغة محددة، فالسارد أحيانا هو شخص محايد، وأحيانا يكون جزءا من الداخل السردي وخارجه.
ووقف بونهام عند نوع من السرد بضمير المخاطب كثير الاستعمال وحقق نجاحا وشهرة في القرن العشرين، المتمثل باستعمال المونولوج الموجه إلى «أنت» خيالي وليس إلى شخص حقيقي (مؤلف أو قارئ) الأمر الذي يجعل السارد يكشف عن وجوده داخل سياق القصة، محددا المسافة بينه وبين المؤلف. أما القصة فمجرد تمثيل درامي لحالة الأنا التي تستتر كما في القول: «أخبرني بنعم أو لا» أو تظهر لفترة وجيزة ثم تختفي مرة أخرى، ولأن السارد بضمير المخاطب أدنى مستوى من السارد بضمير الأنا، تكون المسافة بين الشخصية والقارئ متقاربة. ويشعر القارئ بإحساس لطيف بالتفوق على الشخصية، وقد يتشارك هذا الشعور مع المؤلف الذي ابتكر تلك الشخصية. وأكد بونهام أن ما يجعل ضمير المخاطب أكثر غموضا في وظائفه من الضمائر الأخرى، هو أن تمييزه لا يتعلق كثيرا بمن يروي القصة، بل بما إذا كان الأنا يظهر بوصفه شاهدا ومرجعا للمعلومات. ومثّل بقصة (With a Capital T) 1979 للكاتبة الكندية مافيز غالانت وفي هذه القصة يكون الشخص المخاطب ليس هو القارئ المفترض حسب، بل هو أيضا الشخص الذي تدور حوله القصة. ومن ثم يمكننا التفكير في ضمير «أنت» بديلا عن «أنا» السارد، أو بديلا عن «هو» الشخصية الرئيسية في القصة، فضلا عن احتمالية أن يكون ضمير «أنت» بديلا عن المسرود له بوصفه متورطا أو في الأقل مستدعيا كشاهد على أحداث القصة.
ومثلما أن «أنا» السارد غالبا ما يكون لها وضع مزدوج غريب، حيث إننا لا نستطيع معرفة ما إذا كانت تشير إلى السارد داخل القصة، أم إلى المؤلف خارج القصة، فكذلك «أنت» غالبا ما تكون غامضة في مرجعها من ناحية تطابق الهوية والمرجعية غير المركزيةUncenterly of Reference .
واختتم بونهام دراسته بالتأكيد على أن السرد بضمير المخاطب، لقي في سبعينيات القرن العشرين شعبية أنتجت مجموعة من التجارب التي ما تزال ـ في حدود الزمن الذي كتبت فيه دراسة بونهام – في حالة غير مستقرة. وقارب بين تلك التجارب وأغنية البوب والروك كأنواع شعبية لاقت انتشارا بشكل عام. في إشارة الى التبني واسع النطاق لاستعمال ضمير المخاطب في الشعر الكندي الحديث كما هو الحال في قصائد مارغريت اتوود مثل (إجراء تحت الأرض) و(أنت سعيد) وغيرها من الدواوين، وفيها يكون ضمير (أنت) إما مرسَلا إليه معينا بشكل شخصي كحبيب أو صديق أو قريب، وإما هو بطل غير محدد وغير شخصي، ويتم إعطاؤه اسما معينا. وحسب بونهام فإن الأدب الكندي شهد اهتماما بالسرد بضمير المخاطب وشكل بذلك طفرة، لكنه استدرك بأن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان سرد (أنت) المتقلب سيثبت نفسه كاتجاه سائد في الرواية الحديثة أم لا.
وكان لتطور علم السرد ما بعد الكلاسيكي أن شجع المنظرين الأنكلوأمريكيين على وضع دراسات في موضوعة ضمير المخاطب، فعدوه ظاهرة معقدة، وأفردوا له مساحة بحثية في اتجاه وضع نظرية، يتفردون بها ويؤكدون من خلالها، بصمتهم الخاصة في علم السرديات. وابتدأت تنظيراتهم من لا موثوقية السارد المخاطِب حين يقدم أحداثا بتفصيلات وتفسيرات، يستحيل على أحد معرفتها سوى البطل (المخاطَب) لاسيما إذا قام السارد بعرض مسائل لم يكن البطل موجودا وقت حدوثها، أو كانت في زمن سابق على زمن قصته. وهذا ما يضع المؤلف في مأزق؛ إذ كيف سيقتنع القارئ أن السارد ليس هو المؤلف الذي ينبغي أن يقف على مسافة منه، فيكون منفصلا عنه؟
كاتبة عراقية