لا شك في أن الروائيين الجزائريين الطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة، هما عميدا الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، وأن الروائيين الذي جاؤوا من بعدهما خرجوا من أكمام معطفيهما، كما خرج القصاصون الروس من معطف غوغول، وتجربة الكتابة باللغة العربية في الجزائر عقب الاستقلال، في حد ذاتها، مغامرة وجسارة في بلد عانى من المسخ الاستعماري لأكثر من قرن وربع قرن، لكن تراكمات ذلك العهد لم تتلاش بمجرد رحيل المستعمر، بل ظلت تتكرس وتترسخ لولا جهود الوطنيين الذين نافحوا بكل القوى من أجل هوية البلد العربية الإسلامية الأمازيغية والافريقية.
وكان مالك حداد قد عبر عن الأزمة في كتابته باللغة الفرنسية، تلك اللغة التي اعتبرها مجايله وابن مدينته قسنطينة كاتب ياسين «غنيمة حرب» في حين رأى مالك حداد أنها منفاه بكل ما في المنفى من شجن واغتراب وهامشية.
في رواياته الثلاث «اللاز» و«العشق والموت في الزمن الحراشي» و«الزلزال» رصد وطار ملحمة النضال ضد المستعمر وآفاق التحرر من ربقة الإقطاع بعد الاستقلال، ولا عجب أن تعتبر رواية «اللاز» التي كتبها عام 1974 ضمن أفضل مئة رواية عربية، فاللاز اللقيط المشاكس والعنيف والسكير لا يتورع عن ربط علاقات مع الإدارة الفرنسية زمن التيه، ربما كنوع من الانتقام من وضعه، فهو الشاب الذي ينشأ ونظرات الناس تحوم حول أصله ونسبه، فينحرف مدمرا ذاته ومحاولا تخريب النسيج الرمزي للمجتمع الذي نشأ فيه، لكنه لم يتردد في الالتحاق بالثورة والصعود إلى الجبل مع الثوار ضد المستعمر، ليكتشف في لحظة نادرة أن زيدان المناضل والمثقف الهادئ هو والده الحقيقي، ففي لحظة حميمية أو لحظة ضعف إنساني أو شبق لا سبيل إلى ردها، وفي علاقة مع امرأة من معارفه ترك في أحشائها هذا الجنين الذي سوف يكبر ويغدو اللاز. هذا هو زيدان صاحب التوجه اليساري الذي عمل كادحا في فرنسا وتلقى دروسا مسائية وتثقف بالثقافة الاشتراكية وعرف رأس المال وماركس وتروتسكي ولينين والأممية الاشتراكية والنضال، كذلك ضد أعوان الاستعمار من الإقطاعيين والبورجوازيين الذين يمتصون دماء الكادحين، تلك البورجوازية التي أدانها فانون في «معذبو الأرض» وأدانها سارتر في مقدمته لكتاب فانون هذا.
لاسم اللاز عدة مضامين أو دلالات، ففي المخيال الشعبي هو رمز للتمرد وربما الشيطنة أو الفرادة، فما الأعداد في ترتيبها التصاعدي إلا الزيادة على الواحد الذي هو الكثرة الناتجة عن الواحد (الأصل) وهو كغيره من الجزائريين ممن ترسبت في وعيهم ولاوعيهم ألوان القهر والعذاب والحرمان والتهميش من قبل المستعمر، فتضطره الظروف الكالحة إلى التقرب من الإدارة الفرنسية لنيل حظوة صغيرة عملا بمقتضى المثل العامي «حب الشوارب والقلب هارب» جلبا للقمة أو اتقاء لعقاب، لكن في اللحظة التاريخية لحظة المنعطفات التاريخية الكبرى، كما يسميها أركون يختار «أنا أختار إذن أنا موجود» لقد اختار الثورة والنضال مع إخوانه في الجبل ضد الاستعمار، وهذه هي حال الجزائريين مع الثورة، إنهم لم يتلقوا تدريبا عسكريا ولا ثقافة سياسية تجريدية في المدارس، لكن حين حمي وطيس المعركة التحقوا بالثورة، حيث المعنى الحقيقي للإنسان الجزائري، وكل ما عدا ذلك، هو زيف وتعتيم وضبابية وما اللاز سوى تجسيد وتمثيل لهذه الإرادة الشعبية الكادحة، التي نشأت في جحيم الحرمان والعوز والاضطهاد، ألم يقل العربي بن مهيدي «ألقوا بالثورة إلى الشارع وسوف يحتضنها الشعب»؟
ما يميز هذه الرواية هو الجسارة والجرأة في فتح ملف يعد من قبيل التابوهات في ذلك الوقت، إنه نضال الشيوعيين إلى جانب إخوانهم من جيش التحرير الوطني، وقد رفضوا أن يتخلوا عن قناعاتهم الفكرية والاندماج في الجبهة فكريا وحزبيا، مؤثرين الوفاء لقناعاتهم اليسارية وقد دفع زيدان ثمنا باهظا، فقد عقدت له محاكمة انتهت بتخييره بين التحول إلى الجبهة، أو الموت فاختار الموت، وما دلالة الاسم زيدان، فهل هو يحيل على معنى الزيادة والنماء والكثرة بفعل التناسل البيولوجي والفكري؟ فإن مات محاكما ومقتولا فسوف يخرج خلفه كثيرون يحملون الفكرة والمشعل فالفكرة لا تموت إنها تزيد رسوخا بزيادة أنصارها وشعبيتها. هل في ذلك دلالة ومضمون سياسي آخر لاسم اللاز وشخصيته، كأن يقول الكاتب ضمنيا أن اليسار هو أب النضال، وكل التوجهات الثورية خرجت من معطفه مثلما خرج اللاز من صلب زيدان؟ وأن كل التوجهات الثورية في خضم تجربتها من خلال الحركة الوطنية، كانت ناتجا منطقيا للنضال اليساري، فكأن اليسار هو الرحم الوالد لهذه التوجهات الثورية؟
ربما يشير إلى ذلك الجزء الثاني من الرواية «العشق والموت في الزمن الحراشي» التي كتبها وطار عام 1982 وقد استقلت الجزائر، وقد حاول التأريخ للثورة الزراعية فهنا نرى اللاز شخصا رمزيا تجريديا، وكأنه درويش مثقل بالرقع يتكلم بالألغاز والأمثال وتلك اللازمة التي يرددها دائما «ما يبقى في الواد غير حجاره» فالسيل يأتي على كل شيء غث وهزيل ولا يبقى غير الصلد ولا شك أن في هذه الرواية ما يرمز إلى انسداد الرؤية واحتجاب الأفق وضبابية المشهد السياسي والحضاري معا واختلاط الحابل بالنابل في تصارع مشاريع فكرية متناقضة، المشروع الليبرالي الذي يدعمه كثير من المتنفعين من الحقبة الاستعمارية وظيفة وأملاكا ومصالح والاشتراكي والإسلامي، لكن وطار كتب هذه الرواية بالذات ليدعم التوجه الاشتراكي والثورة الزراعية التي أعلنها الراحل هواري بومدين وتكفي الحماسة لمشروعه والتأييد المطلق أن يرد اسم الرئيس بومدين هكذا «الهواري» معرفا بالألف واللام وما في ذلك من إيحاء بالكاريزما والقدرة على الإتيان بالفعل البكر الخارق في التاريخ، والمؤكد أن هذه الرواية مقارنة بالجزء الأول من حيث التكنيك والرؤية الفنية والحبكة كذلك تعد أضعف وأدنى مستوى من الجزء الأول الذي ارتفع إلى مستوى الإيحاء والترميز، وتكثيف اللحظة واللغة، فقد غلبت على الجزء الثاني الأيديولوجيا والروح التبشيرية بالبروليتاريا الشعبية وكأنها سلسلة من الدروس تشرح أهداف ومنطلقات الثورة الزراعية وفضح خطط الإقطاع في محاولة إفشاله مشروع هواري بومدين، وحملات التطوع التي كان يقوم بها شباب وشابات الجامعة في العطل في المزارع والتوعية السياسية في الأماكن العامة في القرى، بل وفي المساجد وتعرية مخططات البورجوازية والإقطاع في عرقلة الثورة حفاظا على مكاسبها وامتيازاتها. وكالجزء الأول عالجت الرواية فنيا قضية الصراع بين الإسلاميين واليساريين، الذي بدأ في الأحياء الجامعية وفي الجامعة وفي المساجد، وامتد إلى الحقول الزراعية وتناولت قضية الهوية ودور الدين في المشروع الحضاري وهجوم الإسلاميين على الثورة الزراعية والاشتراكية باعتبارها هرطقة وإلحادا وتبعية للشيوعيين، ونالت المرأة نصيبها من الهجوم خاصة المتطوعات، في رميهن بالمروق والانحلال الخلقي لمجرد تدخين طالبة أو سفورها كما تشرح هذه الرواية.
تشبه هذه الرواية رواية حنا مينة «الثلج يأتي من النافذة» فكلاهما طغى عليهما البعد الأيديولوجي والروح التبشيرية فهما تنظير للاشتراكية وشرح لأبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية ما جرّد الروايتين من البعد الرمزي والإيحائي، وكثافة اللغة والإفلات من قبضة التفاصيل الفكرية. دافع وطار في هذه الرواية عن اختيارات الجزائر الاشتراكية وعن الثورة الزراعية ووظف براعته السردية وتكنيكه الروائي في فضح ممارسات الإقطاع والبورجوازية لإفشال الثورة وعلاقة الدين بذلك وصعود الجماعات الإسلامية، وقد شكلت النواة يومئذ في المساجد والأحياء الجامعية والجامعة ذاتها، حيث وصمت التوجه الاشتراكي بالعمالة والمروق والبعد عن الهوية الوطنية والإسلام لصالح مشروع أممي يقصي الدين من مشاريعه الحضارية، ما حدا بوطار إلى تقديم خطاب فكري يلح على احتضان الإسلام ذاته للاشتراكية، ما دام يحض على العدالة الاجتماعية تماما مثلما ذهب اليسار العربي يومها إلى نبش التراث لإثبات يسارية أبي ذر ولفيف من الصحابة.
هكذا إذن جسّد وطار فنيا ثلاثية الثورة بالكفاح زمن الاستعمار والثورة بالساعد والفكر بعد الاستقلال من أجل تحقيق مجتمع العدالة والحرية والمساواة.
فما دلالة العنوان الذي يجمع بين العشق والموت، وهل العشق مفض إلى الموت؟ فزيدان في «اللاز» عشق المبادئ الثورية ومات في سبيلها، أما الزمن الحراشي، فالحراش هذا الحي العتيق والعريق المشهور بسوقه التي يباع فيها كل شيء من الإبرة حتى السيارة، وكل ما هو مستورد ومهرب، إنه زمن الاستهلاك وفقد القيمة، إنه الغول الذي يتهدد الاشتراكية والثورتين الصناعية والزراعية معا، ويغرق الإنسان في دوامة اللازمنية واللاقيمة حيث يتولى الآخرون من وراء البحر صناعة التاريخ والمتن الصناعي، بينما يبقى الناس في الزمن الحراشي مجرد تابعة وذيول وحواش.
وفي رواية «الزلزال» 1974 ومن قسنطينة العريقة مدينة ابن باديس ومالك حداد وكاتب ياسين، يتنقل «بولرواح» بين مقاهيها وحاراتها، متسقطا أخبار الثورة الزراعية والتأميم، إنه بولرواح لا الروح الواحدة فكيف يهلك وينتهي الإقطاع والاستغلال والانتهازية وبولرواح كلما هلك منه جزء قام منه جزء حي، إنه عنقاء تنبعث من رمادها حريصة على خلاصها الفردي على حساب الخلاص الجمعي، هو رمز لطبقة من الانتهازيين والإقطاعيين والمتنفعين الذين خدموا الاستعمار واستفادوا من امتيازات ظلوا حريصين عليها بعد الاستقلال، وكانوا من أعدى أعداء الثورة الاشتراكية، وهكذا تقع الثورة بين فكي كماشة، فالإقطاعيون في الداخل والإمبريالية في الخارج، لكن وطار ظل يبشر بحتمية الخلاص والخروج من نفق الرجعية والتخلف والاستغلال ولو بعد لأي.
هكذا إذن جسّد وطار فنيا ثلاثية الثورة بالكفاح زمن الاستعمار والثورة بالساعد والفكر بعد الاستقلال من أجل تحقيق مجتمع العدالة والحرية والمساواة. تمتع وطار بشعبية كبيرة ومحبة من قبل الناس، هو الذي عاش بينهم لا في برج عاجي بل مستمعا إلى همومهم وأحلامهم وإحباطاتهم، راسما إياها بريشته الفنية، وحتما سيذكر الناس مواقفه فقد اضطر تحت وطأة انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط جدار برلين، إلى المرونة والتكيف مع المستجدات فقد أدرك مثلا أن الاتجاه الإسلامي هو ثابت من ثوابت الشعب، لا يجوز التغاضي عنه أو نكرانه كما البعد العربي والأمازيغي- وهو الأمازيغي القح – وأن الممارسة الديمقراطية تقتضي عدم الإقصاء والإلغاء، وستكون الممارسات السياسية السلمية والتراكمات التاريخية ومبدأ التداول على السلطة خير معين للشعب على مزيد من الوعي، بينما الإقصاء لا يؤدي إلا إلى مزيد من الاحتقان والإحساس بالضيم واللاجدوى.
وفي الختام لا بد من الإشارة إلى الموقف العدائي الذي اتخذه منه بعض الذين يكتبون بالفرنسية، فقد وصمهم بكونهم سببا في خيبة البلد وتراجعه ووصموه بالرجعية والانغلاق والمحافظة، ولا شك في أن وطار بأعماله السردية الكبيرة سيظل باعثا على القراءة والاستمتاع والتأمل والاكتشاف، فنصوصه غنية ببنيتها العميقة وسيظل بمواقفه الثابتة مثالا للمثقف والفنان والإنسان الجدير بكل تقدير.
كاتب جزائري
سقطت في بداية المقال عبارة (لا شك أن الروائيين ) فمعذرة
تم التصحيح مع الشكر للتنبيه
“إبراهيم مشارة” شكرا على المقال ..أرجعتني إلى شبابي عندما كنت أستمتع بالقراءة باللغتين العربية والفرنسية وكنت أعيش لحظات غربة بين هاتين اللغتين خصوصا فبما يتعلق بالكتابة عن الثورة الجزائرية. اليوم لا أكاد أقرأ رواية واحدة بالعربية بحكم عدم معرفتي بالكتاب الجدد وبعدي عن الجزائر وعن حركتعا الثقافية. لذل أجد عزائي في بعض مما أقرا من مقلاتكم فلا تبخلوا علينا رجاءا. تحياتي.