كان ذلك اللقاء في أواسط سنة 2008 على ما أذكر، لم يكن اللقاء طويلا فقد حرصت خلال زيارتي للعاصمة على التوجه إلى مقر «الجاحظية « بالقرب من شارع ديدوش مراد والجامعة المركزية، حيث يدير الطاهر وطار هذه الجمعية الثقافية منذ سنوات، وقد حركت ما كان راكدا في الثقافة الجزائرية، فقد ولّى زمن عبد الحميد مهري وعبد المجيد مزيان ومحمد العربي دماغ العتروس وسليمان الشيخ، واختفت كذلك تلك المجلة الرائدة «الثقافة» وهي المجلة الشهرية التي تصدرها وزارة الثقافة وكانت بحق وجها مشرقا للجزائر المثقفة، الطامحة إلى مكانة ثقافية رائدة في المحيط العربي، وهي تستعيد عروبتها ولغتها، وهذه المجلة نشرت كثيرا من مقالات المستشرقين كجاك بارك وروجيه غارودي، ومقالات عبد المجيد مزيان وأحمد طالب الإبراهيمي وعبد الله حمادي وعبد الله ركيبي وحنفي بن عيسى وعبد المالك مرتاض وعبد الرزاق قسوم وغيرهم، وقبل ذلك اختفت مجلة «آمال» وقد توجهت إلى التعريف بأدب الشباب في الشعر والقصة والمسرح، واختفت من التلفزيون قبل ذلك بزمن بعيد حصة «أقلام على الطريق» لعبد الله الركيبي، التي كان ينتظرها كل عاشق للحرف وللإبداع، وهي حصة رائدة في التعريف بالكتابات الشابة، ولم تكن لها استمرارية. كما اختفى نادي المشاهد أو نادي السينما لأحمد بجاوي، حيث يضرب موعدا كل ثلاثاء لعشاق السينما لمشاهدة فيلم غالبا له علاقة بالأدب والتاريخ والالتزام، متبوعا بمناقشة، اختفت كل هذه الأشياء الجميلة في حياة الجزائر المثقفة، وأصبح الوضع الثقافي راكدا فلا مجلة تصدرها وزارة الثقافة تكون صورة البلد الثقافية وواجهته، في حين تتعجب من مهرجانات غنائية رديئة تنفق فيها أموال كبيرة، وأسابيع ثقافية ذات منحى فولكلوري غثة، تستهلك المال بغير جدوى منها، على الرغم من بعض الأحداث الثقافية الكبرى كاحتفالية الجزائر عاصمة الثقافة العربية سنة 2007، وتلمسان كذلك عاصمة الثقافة الإسلامية سنة 2011، لكنها كانت ظرفية وعابرة، لا تكرس الفعل الثقافي الجاد وترسخه في الحياة اليومية للناس. وقبل ذلك سنة الجزائر في فرنسا سنة 2003 وقد غلب عليها الطابع الدعائي السياسي الفج على الجانب الفكري والتاريخي والأدبي، ناهيك من المال الكبير المبذول، وهذا مقتل كل نشاط ثقافي حيث تذهب الفائدة الحقيقية أدراج الرياح لحساب الدعاية السياسية والإعلامية.
إذن حالة من الشلل الثقافي والعطالة الفكرية، وفي المقابل أموال كبيرة مرصودة لا تعود على الثقافة وعلى المواطن بفائدة كبيرة لعقله ووجدانه، وتؤدي إلى تحقيق حلم أحمد طالب الإبراهيمي في كتابه «من تصفية الاستعمار إلى الثورة الثقافية».
حاول وطار إنعاش الثقافة، دون التقرب من المسؤولين، وهو رجل يحتفظ بمسافة عن السلطة، وهو لا يراودها ولا هي تقدر، وكان هدفه خدمة المواطن وتشجيع المبدع وتكريس تقليد ثقافي أدبي عبر الجاحظية التي أصدرت «مجلة التبيين» وهي مجلة أدبية تكرس للنقد وللإبداع القصصي والشعري، وقد احتفت بإبداع الشباب المعروفين والمغمورين في الجزائر وفي المغرب العربي، فلم يفتها الطابع المغاربي ووضعت جائزة شعرية سمتها جائزة مفدي زكريا للشعر، وتشكلت المبالغ من إعانات المتبرعين من أنصار الثقافة، وحتى مجلة «التبيين» كانت تصدر بمساهمة مادية من دار سعاد الصباح الكويتية.
حاول وطار إنعاش الثقافة، دون التقرب من المسؤولين، وهو رجل يحتفظ بمسافة عن السلطة، وهو لا يراودها ولا هي تقدر، وكان هدفه خدمة المواطن وتشجيع المبدع وتكريس تقليد ثقافي أدبي عبر الجاحظية التي أصدرت «مجلة التبيين» وهي مجلة أدبية تكرس للنقد وللإبداع القصصي والشعري.
سعيت إذن إلى لقاء وطار صاحب «اللاز» و«الزلزال» و«عرس بغل» و«الطعنات» و«دخان في قلبي» و«الولي الصالح يعود إلى مقامه الزكي» ، وأنا على بينة من واقعنا الثقافي وحالة الركود التي نحياها، وطار صاحب النقد الجريء في حق وزير الثقافة المصري فاروق حسني وتوصيفه المشهور «الوزير الخالد في النظام الخالد» وصاحب الموقف الجريء إبان توقيف المسار الانتخابي في الجزائرعام 1991، فقد كان ضد توقيفه وداعيا لإكماله حتى لو فاز الإسلاميون، وهو اليساري المخلص ليساريته لأن المكسب الذي كسبه الشعب الجزائري هو الآلية الديمقراطية، التي تتيح تغيير من لا ينجح في مهامه، وتحقيق وعوده الانتخابية لفائدة المواطنين بالصندوق، فإذا كان الإسلاميون قد فازوا ففشلهم ـ إذا فشلوا- في تسيير الشأن العام سيؤلب الشعب عليهم، ومن ثمة سيسقطهم في المرة المقبلة، فالصندوق وسيلة الشعب للتغيير، والثأر من كل حزب لا ينجح في تسيير الشأن العام، وتجسيد الوعود الانتخابية وترجمتها إلى واقع ملموس مزدهر، لكن المسار الانتخابي توقف ودخل البلد في دوامة العنف وفي حمام الدماء.
في مدخل الجاحظية، حيث تتكفل الواجهات الزجاجية البسيطة بتعرف الزائر بمختلف منشورات الجاحظية، كالأعداد المتتالية للتبيين والمطبوعات التي ساهمت في طبعها، وهي مجموعات قصصية ودواوين شعرية لمبدعين شباب، وإعلان عن محاضرة، أو أمسية شعرية، ويعاون الطاهر وطار مجموعة من الفتيات والطلبة من الجامعة وهواة الأدب، وحين دخلت إلى مكتب وطار استقبلني بشكل عفوي فليس في عرفه مراسيم ولا بروتوكولات، وهذا شأن المبدعين الحقيقيين فالأديب لا شأن له بالبروتوكولات، فهذا شأن السياسيين وسماسرة المال، أما الأدباء فالحميمية والعفوية والتلقائية سمتهم الكبيرة، جلست وتحدث وطار عن مصاعب التمويل والعراقيل المختلفة، وعلمت منه أنه عاد لتوه من العاصمة العمانية مسقط، جلس وطار إلى جوار الكمبيوتر وأعلمته أنني سعيد بالنشر في مجلة «التبيين» فقد أنجزت سلسلة من الدراسات النقدية عن شعراء معاصرين وقصاصين، وأذكر أنني سلمته مقالة عن الروائي السوري حنا مينه وأخرى عن الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري، ابتهج وطار بعنوان المقالة «الجواهري شاعر الإباء والرفض» وباسم الجواهري وقال بجزائريته البسيطة «هذا صاحبي».
ثم طلب مني أن أجلس إلى المكتب وأترك هذه المقالات في ملف على جهاز الكمبيوتر، اعتذرت بأنني لا أعرف الإعلام الآلي وإنني مجرد كاتب يحسن استعمال الورق والقلم ضحك وطار وقال لي:
ألا تعرف الإعلام الآلي؟ ذاك زمن الله
انتهى اللقاء وعدت إلى بلدتي، وبرّ وطار بوعده وخرجت المقالتان وغيرهما في أعداد متتالية من مجلة الجاحظية «التبيين».
هاتفته مرة أسأله المساعدة في طبع كتاب ثان على نفقة الجمعية، بعد أن تكفلت وزارة الثقافة بطبع الكتاب الأول «وهج الأربعين» في إطار احتفالية الجزائر عاصمة الثقافة العربية، فاعتذر وأخبرني أن الجمعية تكاد لا تجد ما تدفع به بعض نفقات صيانة المقر، وقال بلهجته الجزائرية العفوية «عريان وعريان التقيا في حمام «، وكان يقصد حاجتي التي سألتها منه وحالة الجمعية فالتعري معناه الإفلاس، ونصحــــني بالتوجـــه إلى صناعي كبير من أهل بلدتي أطبع على نفقته الكتاب، وشكرته وانتهىت المكالمة. امتنعت عن الاتصال بالصناعي، فما زلت أرفض التقرب من كل وجيه ولو اقتضى الأمر بقاء الكتاب مخطوطا، وقد طبعته في ما بعد في القاهرة أوائل سنة 2011.
مرض وطار بعد ذلك بالسرطان وذهب في رحلة علاجية امتدت لعام في باريس على نفقة الدولة، وكنت أحدس أن حياة وطار صارت قاب قوسين أو أدنى من الختام، فهذه الأمراض لا تترك صاحبها حتى تنتهي به إلى النهاية المحتومة. بقي وطار في باريس في المستشفى، يخضع للعلاج ويمارس الكتابة، وكان قد دخل في مرحلة الكتابة الصوفية، حيث تشف الروح وتحوم حول عالم الحقيقة الكلية، حومان الفراش حول النور، وتتناثر الكلمات على الورق رقيقة شفافة ترتفع شيئا فشيئا إلى عالم النور الكلي والفيوضات الإشراقية، وهي تجربة يعرفها كل من مارس هذا النوع من الكتابة أو سار على المسار نفسه، أو قرأ هذا النوع من البوح الصوفي والإشراقي.
عاد وطار إلى الجــــزائر بعد نهاية مدة العلاج لا ليمارس الكتابة والحياة وليباشر الإشراف على نشــاطات الجاحظية، بل ليودع الناس الذين أحبهم وأحبوه، وكانوا يصادفونه في الأزقة وفي المقاهي والمطاعم الشعبية وينادونه بأحب الألقاب إليه «عمي الطاهر» ليودع الحياة التي هام عشقا بها وندب قلمه لتفسير لماذا تقسو الحياة على طبقة كبيرة، وترأف بطبقة صغيرة، مستعينا بشروحات ذلك الملتحي ذي النظرات الغامضة الحادة والعميقة، الذي كان يؤلمه في الوقت ذاته ظلم الإنسان للإنسان، واستغلاله وهي شروحات في الواقع بصيص من نور، يهتدي به في دروب الفهم والممارسة النضالية كل كاتب يتعرض للمعضلة الإنسانية وشرطها الحياتي.
مات وطار بعد ذلك بقلـــيل، وأسدل الستار على حياة ومسار واحد من رواد الأدب الحديث في الجــزائر، لم يكتب لي معه إلا لقاء يتيم ومكالمة واحدة.
٭ كاتب جزائري
عزيزي الأستاذ ابراهيم المحترم مقالك الرائع ينضح بالصدق ، ويضج بالمروءة والكرامة . أتقدم لك بشكري العميم على هذه الصراحة النادرة في زمن الزيف هذا . بثثت الحياة في ذكرى الراحل الكبير الأستاذ الطاهر وطار الذي شرّفني بإهدائه مجموعة من كتبه إليّ . رحمه الله . لا غرابة أن يكتب علم عن علم ، مع تكرار الشكر لك وللقدس العربي الغرّاء . د. وليد محمود خالص
عمّي الطاهر ?. … كم نفتقده في غربتنا التي نعايشها …هو وكل من قتلوا عمدا وبغير عمد !!
لروحه السلام أينما حلّت ….
شكرا للكاتب .
شكرا للأستاذ إبراهيم الذي أحيى في نفوسنا ذكرى الأديب الطاهر وطار الجزائري الخالص الذي بقي وفيا لمبادئه ، قريبا من الناس ، متواضعا لهم . أشهد أني لقيته مرة في المعرض الدولي للكتاب ، و أنه كان كما وصفت عفويا شفافا . رحمه وغفر له .
اقرأ مقالتك للمره الثانية أستاذى الفاضل . كم وددت لو كنا معا نتحاور حول اللاز ، والشهداء يعودون .. . أرجو من الله عزوجل أن يمكنني من ذلك يوما .