نظرتْ في حزم إلى ذلك الجريح الذي يقبع في خيمة في الجهة المقابلة، لم يكن الطريق إليه سهلا، بل كان محفوفا بأشباح الموت، فعلى كل من يسعى للوصول إليه وإنقاذه أن يتفادى رصاص القناصة المتربصين بالمارة.
لكنها عزمت والعزم أحيانا يفلّ الحديد، فتخففت من سترتها الجلدية السميكة لتمنح نفسها مزيدا من السرعة وحرية الحركة، وقطعت عرض الطريق ركضا وهي تخفض رأسها، حتى تمكنت من الوصول إلى الخيمة، فتبعها آخرون، وحملوا الجريح على محفة، ليعودوا بالهيئة نفسها، وفي ظل المخاطر ذاتها. لولا ذيوع المشهد وتطاير النبأ، لربما ظن من يقرأ الكلمات أنها مقطع من فيلم هوليوودي، أو بوليوودي، لكنّها غزة العزة، التي تصدّر للعالم أبطالا حقيقيين لا أوهام البطولة.
الطبيبة أميرة العسولي التي أنقذت الجريح القابع في ساحة مستشفى ناصر بخان يونس، غادرت القطاع قبل عملية طوفان الأقصى بشهرين إلى مصر لحضور مؤتمر طبي وعدة دورات تدريبية، لكن ما إن اندلعت الحرب، حتى عادت إلى غزة لتقوم برسالتها في تقديم الرعاية الطبية للجرحى والمصابين. تقول العسولي التي أطلق عليها «المرأة الحديدية»، «بطلة خان يونس»، «الطبيبة الفدائية»: «رسالتنا معروفة، من وقت تخرجنا في الكلية وأقسمنا على تقديم المساعدة لأي إنسان بحاجة إليها».
الطبيبة لخّصت دوافعها بكلمة واحدة: «هذه رسالتنا»، فقد تحركت أميرة لإنقاذ الجريح بدافع القيام بحق رسالتها كطبيبة، هذا الدافع هو الذي خلّصها من ربقة الخوف والتقوقع خلف أسوار الـ»أنا»
حقيقة لم تصبني الدهشة لهذا المشهد، لأنني وببساطة شديدة اعتدت على مطالعة مشاهد البطولة التي تصدر عن أهل غزة، تلك المشاهد التي لن تجد مثلها في أي أرض في هذا العالم سوى غزة، واعتدت على بسالة الأطقم الطبية، التي يتفانى عناصرها في القيام برسالتهم وواجبهم تحت القصف، ويستمرون في القيام بهذا الواجب، رغم سقوط ذويهم وأهليهم قتلى وجرحى، لكن كونها امرأة تتحلى بهذه الشجاعة وهذا الإقدام، فإنها بالضرورة تحيلنا إلى تسليط الضوء على موقف رجال العرب، الذي يذكرني بما قرأته أكثر من مرة في كتب التاريخ، عندما يستدعي الحاكم الجائر أحد معارضيه ويأمر السيّاف أن يذبحه بحضرة الوجهاء والعلماء، والذين لا يفعلون شيئا سوى أن يغطوا وجوههم بثيابهم حتى لا يصيبهم شيء من الدماء المتطايرة. هذا ما يفعله العرب، يقفون موقف المتفرج بينما غزة تباد ويذبح أهلها، كل منهم يغطي تخاذله ببعض التصريحات الجوفاء في محاولة بائسة لتفادي عار الصمت وتحمّل التبعة أمام التاريخ. تزامن هذا الموقف البطولي للطبيبة الشجاعة، مع اعتزام المجرم الصهيوني شن هجوم شامل على رفح الحدودية، التي تكدّس فيها أكثر من مليون ونصف المليون نازح، يرتقبون ويرتقب العالم المتخاذل بأسره أن تحل بهم ـ لا قدّر الله – أبشع مذابح هذا العصر، وهو العالم نفسه الذي يشاهد بعينيه تلك المجاعة التي يعيشها أكثر من 600 ألف فلسطيني في شمال القطاع، قد منع الصهاينة وصول الإغاثات إليهم، فأكلوا العشب، وتناولوا أعلاف الحيوانات حتى نفذت، وشربوا المياه الملوثة حتى باتوا مهددين بأن يكون صرعى الأوبئة، بل قصفت زوارقهم الأهالي الذين أرادوا جلب قوتهم من البحر، بما يكشف عن إرادة صهيونية لموت الأهالي جوعا.
مفارقة عجيبة أن يتزامن الموقف الجرئ للطبيبة أميرة العسولي مع الخرس والشلل العربي إزاء هذه الأحداث التي يقف فيها أهل غزة على شفير الهلاك. ما الذي ينقص العرب ليكونوا في جرأة وشجاعة الطبيبة أميرة العسولي؟ ما الذي ينقصهم ليتحولوا عن مقاعد المتفرجين إلى الركض وقطع الطريق لإنقاذ أهل غزة من الموت والدمار؟ مرة أخرى تداهمنا المفارقات العجيبة، فالطبيبة لخّصت دوافعها بكلمة واحدة: «هذه رسالتنا»، فقد تحركت أميرة لإنقاذ الجريح بدافع القيام بحق رسالتها كطبيبة، أدت القسم لتقديم العون لكل محتاج إلى المساعدة الطبيبة، هذا الدافع هو الذي خلّصها من ربقة الخوف والتقوقع خلف أسوار الـ «أنا».
الأنظمة العربية لم تعد تحمل رسالة دافعة للتحرك باتجاه إنقاذ غزة، كنا في الماضي نتحرك تحت مظلة الإسلام وأمة الجسد الواحد، ثم اختزلناها إلى غطاء قومي يهتف «أمجاد يا عرب»، ثم تخلينا عنه وتقوقع كلٌّ داخل الإطار الذي رسمه سايكس وبيكو، وحتى شعار الإنسانية لم يعد لهم فيه نصيب، فلم يتحركوا ولو بدافع إنساني، كما حركتهم أحداث «شارلي إبيدو». فقدوا الرسالة، فكُبِّلت أيديهم وأقدامهم، ووقفوا ينتظرون ما تسفر عنه الأحداث، وتدثروا بشعارات الحكمة وعدم الاستجابة للاستفزازات حتى لا تندلع حرب إقليمية وتجر المنطقة إلى ويلات الدمار، يتجنبون الفتنة ولكن (ألا في الفتنة سقطوا). أما نحن كشعوب، فضمائرنا قد استراحت بمسوغات العجز والقهر، وعدم القدرة على دفع الأنظمة للتحرك الجاد، لكن قد يختلف الأمر عندما يتعلق برغيف الخبز، وتأخير الرواتب وفرض القوانين المجحفة، ساعتها تتعالى أصوات المطالبات الفئوية، نحن أيضا لم نعد نحمل رسالة تحركنا كما ينبغي لإنقاذ غزة. أعلم جيدا أن المقال لا يكتمل بعرض المشكلة دون إبداء الحلول، لكن صدقا مهما تحدثنا عن حلول فسوف تبدو ضربا من التنظير وملء فراغات السطور، فلا الحكومات لديها الدافع لإنقاذ غزة مهما كانت كلفة الإقدام، بل ليس لديها إرادة أصلا، ولا الشعوب لديها القدرة على تجاوز مربع الدعم الذي حُبست فيه. الحلّ لن يصدر مِن قِبلنا، بل سيداهمنا، فغزة والقضية الفلسطينية على المحك، إما أن تكون الغلبة للفلسطينيين وتؤول الحرب إلى هزيمة تقوّض بنيان الكيان الصهيوني، وتجعله يشرع في لملمة أشيائه للعودة من حيث أتى، وحينها سوف تتغير خريطة المنطقة تماما، تتغير علاقات الدول ببعضها، وتتغير علاقات الشعوب بأنظمتها. وإما أن تضيع غزة ويسدل الستار على القضية الفلسطينية ـ مؤقتا- فحينئذ سوف يداهمنا الحل أيضا، عندما يفحش الذئب الصهيوني في التهام البقية، وسوف يكون الواقع مؤلما عندما تؤكل جميع الثيران رغم علمها السابق بحكمة الثور الأبيض.
كاتبة أردنية