يلاحظ من يتجوّل في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل صفحات الإنستغرام، تزايدا في إقبال المستهلكين على المأكولات التقليدية، وعلى الأماكن التي يعثرون فيها على ندل يرتدون الطربوش التركي، أو أي لباس تقليدي آخر (لباس باب الحارة الشامي). ولا يقتصر الاهتمام على عوالم الحنين هذه، بل نرى أيضا إقبالا على الأطعمة العضوية. إذ باتت تزدهر في السنوات الأخيرة تجارة بيع هذه الأطعمة، حتى إنها تجاوزت دائرة المدافعين عن البيئة وذوي البساطة في العيش إلى عدد كبير من الناس. وفي الغالب، هناك من ربط هذه التحولات بالحنين إلى الزمن الماضي، زمن يبدو في مخيلة الملايين اليوم وكأنه كان زمنا أجمل وأكثر دفئا وذوقا، مقارنة بزمن البرغر والوجبات السريعة. هذا ما نشهده مثلا في حياة اللاجئين السوريين في السنوات الأخيرة؛ فأينما رحلوا، نشاهد الشاورما والفلافل والكبة متنقّلة معهم. وعلى الرغم من مرور عقد تقريبا على هجرتهم واختلاطهم بعادات وأذواق جديدة، إلا أننا نرى أجيالا منهم ما تزال تهرب إلى مطاعم الفلافل، للتذكر والشعور بقليل من الأمان.. تذهب بعض القراءات الأخرى، إلى أنّ العودة، لا تعبر عن حنين فحسب (كما في حياة اللاجئين) بل أيضا عن وجود عوالم محافظة أخذت تتشكّل في العالم. وهي عوالم تقوم على رفض ثقافة الاستهلاك الرأسمالي، وتدعو نحو أخلاق أخرى في التعامل مع الطبيعة والطعام، مغايرة لأخلاق الحداثة الرأسمالية.
مقابل هذه الرؤية المتفائلة، يطرح جيل ليبوفتسكي في كتابه «تتويج الأصالة» الصادر بالفرنسية سنة 2021 وترجم للعربية مؤخرا عن دار أدب، قراءة مختلفة لهذه النزعة نحو التقليد في عالم الطعام. في كتابه، يناقش ليبوفتسكي ما يسميه بعصر الأصالة الجديد، وهو عصر يختلف، كما يرى، عن دعوات الأصالة التي عرفها عدد من المجتمعات في القرن العشرين. وفقاً له، لا تهدف هذه الأصالة الجديدة إلى القطيعة مع أفكار الحداثة، وتأسيس عالم أخلاقي جديد بالضرورة، بل تعيش داخل الزمن نفسه، إلا أنها تملك مبررات ذوقية وذاتية مختلفة. يرى المؤلف أننا نعيش عصر تنوع أشكال الجري وراء الأصالة، التي سيطرت عليها الروح الاستهلاكية والعروض التجارية، فالمنتجات الغذائية والطعام صارت تباع تحت راية الأصالة أو الطعام التقليدي. وفي هذه الدورة، لن تكون العودة للتقليد مجرد فضيلة أخلاقية، أو مثل أعلى ثقافي يتحقق بمناصبة العداء للتفاهة اليومية والتجارية فحسب؛ إنها تفرض نفسها باعتبارها حاجة ملحة تتعلق بالأشياء التي تُستهلك وبطرق استهلاكها.
كان التعبير تاريخيا عن الأمل في حياة أصيلة يتم بداية خارج المجال الاقتصادي، ولذلك نرى مثلا أن الحركات الدينية الحديثة غالبا ما عبرت عن نفسها في صيغ أيديولوجية تتعلق بالأخلاق، بينما كان الموضوع الاقتصادي يأتي في هامش هذه الاهتمامات. لاحقا، تطور مشهد هذه الجماعات وأخذت تقدم طروحات أصيلة ضد الرأسمالية مثلا. في حين يرى المؤلف أننا نعيش اليوم طورا آخر، صارت الأصالة فيه تتحقق في الأشياء الاستهلاكية والمنتجات والأزياء. واللافت هنا، أنّ هذه الموجة لم تعد حريصة على الظهور بمظهر المقاوم الثوري الراغب بهدم الرأسمالية، أو في الانقطاع عن نمط الحياة اليومية، وإنما في ممارسة الاستهلاك التجاري في الحياة اليومية ذاتها. بيد أنّ ما يميز هذه الموجة أنها لا تسعى إلى استهلاك سطوة الأعراف التي فرضتها الحداثة بالضرورة ومقتضيات الانتماء الاجتماعي، بل نرى أنّ المستهلك يتوق نحو اهتزاز المشاعر واعتمال العواطف، عسى أن ينسى ثقل الحاضر.
لكن هل يعني هذا أننا أمام موجة حنين أخلاقية بالضرورة؟
يبدو المؤلف هنا حذرا تجاه هذه الإجابة، فهو يرى هذا الحنين للتقليد في الطعام مثلا، لا يهدف لأن يكون نشاطا تقليديا فقط، وإنما مثله مثل الدواء المسكن الذي يكبح رغباتنا ويهدئ من روعنا ويخفف من شعورنا بالعجز، ولذلك ينبغي ألا ننخدع كثيرا بالمقاربات التي تقرأ هذه التطورات من زاوية أخلاقية رافضة للاستهلاك؛ فالنزوع نحو الطعام التقليدي لا يعني وقوفا ضد التيار الاجتماعي في اكتفائه بالذات ورفض تام للعالم التجاري، وإنما إدماج للبعد الأخلاقي والبيئي في مجال البيع والشراء. ولذلك نرى أنّ أنصار هذه الموجة ينفقون في واقع الأمر أكثر مما ينفقه غيرهم من المستهلكين المحافظين.
طعام وعواطف
وعلى الرغم من أن المؤلف يبدو حذرا من الحديث عن ظهور ثقافة ما بعد استهلاكية، لكنه يرى أيضا أنّ هذه الموجة تحتوي على أشياء جديدة. من هذه الأشياء مثلاً، أن استعادة السيطرة على مسألة الطعام (اختيار الطعام العضوي) يعدّ شكلا من أشكال التحكم الشخصي، ومن ثم يعني التمكن من التحكم بشكل أفضل في أجسادنا. هنا يكون المستهلكون لعالم الطعام التقليدي الجديد فاعلين في استهلاكهم ومعاشهم، فهم من خلال هذه العودة يستعيدون نفوذهم ويعزّزون شعور المرء بالتحكم في نمط عيشه، كما أنّ المستهلكين من خلال بحثهم عن الذوق والتعاطف ولحظات الحنين، إنما يساهمون في نجاح مبدأ الاستهلاك المحلي، ويعبرون عن الرغبة المتزايدة في التواصل الإنساني. فتجربة زيارة مطعم تقليدي مثلا، أو زيارة حديقة تقدم منتجات عضوية، لا تجلب للمستهلكين لحظات من الحصول على أشياء طبيعية أو تقليدية، بل تفتح الباب أمام قصص وذكريات وحكايا، وربما هذا ما يبحث عنه هؤلاء المستهلكون والزائرون أكثر من الوجبات نفسها، ولذلك يعدّ الجديد في هذه الموجة، بحث المستهلكين لها عن استهلاك ورفاهية، لكنها رفاهية مفعمة بالقيم الحسية والعاطفية. والخلاصة التي يصل لها الكتاب، أنّ روح التقليد أو الأصالة، التي نراها اليوم في عالم الطعام أو في عوالم أخرى موازية، لم تعد مدعومة بالرغبة في قلب النسق السائد، بل الرغبة في أن يحقق المرء ذاته تحقيقا كاملا من خلال نمط حياة أكثر صحة (الأطعمة العضوية) وعبر إضفاء أو محاولة إقناع أنفسهم، بأنهم يضفون معنى جديدا على استهلاكهم، دون أن يناهضوا عالم الاستهلاك نفسه.
كاتب سوري