من الأشياء الجانبية المتعارف عليها في العملية الكتابية الإبداعية وغير الإبداعية حتى، ما يسمى بطقوس الكتابة، أي الجو الذي تجري فيه عملية الإبداع، والأفعال التي يمارسها المبدع حتى ينتهي نصه، وحين تطلع على شهادات تم تجميعها في هذا الشأن، تستغرب من بساطة بعض الطقوس، وتعقيد بعضها، خاصة تلك التي تستلزم السفر إلى بلاد أخرى بعيدة عن تلك التي يقيم فيها الكاتب، من أجل أن يكتب رواية أو قصيدة، أو يجري بحوثا ما، تنتهي بنص إبداعي، وهنا بالطبع أتحدث عن المبدعين المقتدرين، أي الذين يملكون ما ينفقونه على إبداعهم، وليس العكس، أي ينتظرون إبداعهم، أن ينفق عليهم، ويمنحهم حياة.
وقد قام الصديق الكاتب السعودي عبد الله الداؤود منذ سنوات، بتجميع عدد كبير من طقوس المبدعين عربيا وعالميا، في كتابين، يحملان هذا العنوان، وكانت السياحة في كتابيه متعة كبيرة، تقربك من كتاب قرأت لهم، لكن لا تعرف عن طريقة صناعتهم للإبداع، شيئا.
أردت هنا أن أتحدث عن ربط تلك الطقوس بالعملية الكتابية، وإن كان ذلك الرابط قويا بحيث تضيع الكتابة بانفصاله عن حياة المبدع لأي سبب؟ أم تستمر بغض النظر عن وجوده أو ابتعاده؟
المكان مثلا، ذلك الذي تجري فيه عملية الكتابة المعتادة، مثل أن يكون مقهى معينا، أو ركنا هادئا في فندق، أو حتى مكتبا مجهزا أو غير مجهز في بيت الكاتب. هذا المكان في الغالب مرتبط بذهن المبدع بشدة، ويوحي له دائما أن لا مكان غيره سيمنحه الكتابة، إن غيّره، وبذلك المفهوم المزعج، والمسيطر، والديكتاتوري، يظل الكاتب غريبا في بيته، وفي أماكن أخرى يجربها أثناء سفره، أو ربما داخل المدينة نفسها، ولا يحس بالارتياح وأن الأفكار لن تتجمع عنده، إلا إذا عاد لمكانه، وكنت أملك ركنا صغيرا في فندق متوسط في الدوحة، حكيت عنه كثيرا وعن فضله في منحي ترابط الأفكار وانسيابها، وصورته ونشرت صوره، كنموذج من نماذج الطقوس، وبهذا الفهم أو الارتباط بالركن، أنجزت أعمالي كلها، وفي فترة غزو فيروس كورونا الكثيف للدنيا، أغلقت تلك الأماكن، وألغي الركن لفترة طويلة، وكنت أتحاوم في المكان، حاملا أفكاري، ولا أعثر على مستقر لها، قرابة العام ونصف العام، ثم في النهاية، جلست في بيتي، في المكان الذي لا أكتب فيه قط، وكتبت نصي الجديد.
إذن ما الذي تغير هنا؟
إذن لا مشكلة أبدا في تعديل الطقوس، لا مشكلة في الكتابة في أي مكان إن تعذر إيجاد المكان الأصلي، والكتابة بلا قهوة ولا سجائر، ولا موسيقى عند أولئك الذين يكتبون على أنغام الموسيقى. ولأولئك الذين يكتبون في أماكن بعيدة يسافرون إليها، أعتقد أن فترة السجن الإجباري التي طبقها فيروس كورونا على الدنيا، أجبرتهم على الكتابة في بيوتهم.
لقد انفك الارتباط ليس إلا، ولأكتشف أنني أستطيع الكتابة في مكان آخر، لكن شغفي بمكاني ذلك، وأنه ما يمنحني نصوصي، كان عائقا كبيرا، في الحقيقة هو مكان عادي، تم الاعتياد عليه، ولا أكثر من ذلك، وحين ذهب، كان لا بد من أن تستمر الكتابة، تماما مثل موت الأعزاء، هؤلاء يملأون حياتنا بالجمال، ويمنحوننا معنى كبيرا لوجودنا، ثم يأتي الموت ليزيحهم، وتستمر الحياة، التي قد يدخلها آخرون، يعوضون غياب الأعزاء، وقد تظل كما هي، لكن تمضي.
وكلنا يعرف أن مقاهي عديدة، في بلادنا، كان يكتب فيها الناس، أغلقتها الحروب، والنزاعات، وخراب المدن، وحمل روادها من المبدعين أقلامهم إلى أماكن أخرى، بعضها بعيد جدا عن الحياة العربية.
التدخين وشرب القهوة بكثرة أثناء العملية الكتابية، طقسان يكادان يسيطران على أدمغة كل من يكتب، ليس في بلادنا العربية فقط، لكن في كل مكان، المبدع يردد الجمل والتعابير الجيدة، والأفكار التي يصنع بها نصه في ذهنه، وحين يتوقف الذهن عن التجميع، يستعين برشفة من القهوة وسيجارة، وهكذا ينتهي يومه مع قليل من الجمل وكثير من الضرر، بسبب ما احتساه من قهوة، ودخنه من سجائر.
هنا، لو حدث وأرغم الكاتب على ترك القهوة والسجائر، بسبب مرض ما، قد يكلفه حياته إن استمر، مثل أمراض القلب والرئة، والجلطات الدماغية الخفيفة، التي تعبر بسرعة، لكن قد تعود، هل تتوقف الكتابة عنده؟ هل سيظل خاملا عن الإبداع؟
لا بالطبع، لقد تم فك الارتباط، وما هي سوى أيام أو أشهر، سينفقها المبدع موسوسا، وخائفا، وقد يشترى علب السجائر ويكاد يفتحها، ولا يفعل، ليصل في النهاية إلى قرار أن يجرب الكتابة بلا أدوات الضرر تلك، وسينجح، لأن الكتابة ليست داخل سيجارة، إنما داخل ذهنه الذي تنازل طواعية للسيجارة، وجعلها سيدا عليه، السيجارة بالذات حتى لغير المبدعين، كارثة كبرى، والتخلي عنها يبدو مستحيلا للبعض، وهناك من لا يستطيع مقاومة إغواءها حتى لو تركها زمنا طويلا، فيعود.
وأذكر أنني قضيت في بداية حياتي العملية، عدة أيام في سجن بورتسودان، أيام إضراب الأطباء، في بداية العهد الماضي المظلم للسودان، كنت أدخن تلك الأيام، وطلبت من رجل الأمن الذي جاء لاقتيادي، أن نعرج على السوق، أمام شركة باتا للأحذية، لنشتري السجائر، من أولئك الذين يتاجرون في السجائر والعملة، واستجاب لطلبي، كان رجلا مسنا كما أذكر، يرتدي الثوب والعمامة، ويسف التنباك، وحين تراه يمشي أو تسمعه يتحدث، قد تعتبره أباك أو عمك، ولا تظن أبدا أنه ضدك.
المهم أنني اشتريت الكثير من الدخان، وحين فتح باب السجن ودخلت، فوجئت بجمهور عريض من السجناء السياسيين ينتظرونني، ليس لتحيتي لكن لأن خبرا تسرب بأن القادم الجديد، يملك سجائر كثيرة، وسرعان ما تم تجريدي من مخزوني، وأضيف إلى المخزون العام، الذي كان يشرف على توزيعه الشاعر العظيم الراحل محجوب شريف، وكان سجينا في بورتسودان تلك الأيام.
إذن لا مشكلة أبدا في تعديل الطقوس، لا مشكلة في الكتابة في أي مكان إن تعذر إيجاد المكان الأصلي، والكتابة بلا قهوة ولا سجائر، ولا موسيقى عند أولئك الذين يكتبون على أنغام الموسيقى. ولأولئك الذين يكتبون في أماكن بعيدة يسافرون إليها، أعتقد أن فترة السجن الإجباري التي طبقها فيروس كورونا على الدنيا، أجبرتهم على الكتابة في بيوتهم.
كاتب سوداني