في الطائرة عالم خاص من اللغو واللغة يحتاج من لسانيٍ، لم ينس شغله وهو مسافر كثيرا من التدبّر. يجد المسافر في الطائرة ثلاثة أضرب من الخطابات التي ينجز أغلبها بالكلام، أوّلها الخطاب اللبق، وثانيها خطاب التنبيه، وثالثها خطاب الوصف. وفي الطائرة خطاب رسمي هو الذي ينتجه طاقم الطائرة، وخطاب شعبي هو الذي ينتجه ركابها. الخطاب اللبق مصدره الأصلي الكلام الرسمي، إذ يعترضك به في البوابة طاقم الطائرة، ومن الممكن أن يتكفل الربان نفسه بالترحيب بالمسافرين واحدا واحدا. وهناك فطنة وحدس لدى هؤلاء في استكشاف اللغة التي يمكن أن يتقنها المسافر، سواء أكانت لغة محلّية أم لغة أجنبية يفهمها المسافر. يستعمل هؤلاء تقنية مسح الوجه السريع لمعرفة أصل المسافر ويربطون ذلك باللسان الذي يخاطبونه به؛ صحيح أنّ هذا يمكن أن يجدي نفعا بالنسبة للوجوه المختلفة اختلافا بيّنا، لكنّ ذلك قد لا ينجح بالنسبة إلى الأعراق من ذوي الوجوه المتشابهة مثل، العرب، الأوروبيين.. الآسيويين، وحين ينبهم الأمر على الطاقم، الذي يسلم عليك يمكن أن يستعمل أشهر اللغات كالإنكليزية أو لغة بلاد الناقلة لنقل مثلا الفرنسية أو الألمانية أو العربية المحلية.
إنّ أهمّ ما يمكن أن يسلم به الطاقم في أداء واجب السلام، اعتقاد في أنّ المسافر يمكن أن يتقن لغة أو اثنتين؛ وأنّه لا وجود لمسافر أحاديّ اللسان في الأصل. لكأنّ السفر بالطائرة يقتضي من المسافر أن يكون عارفا، ولو نسبيا بمنطِق البلاد التي يسافر إليها وأنّ أحاديّة اللسان لا يمكن أن تحلّ إشكال التواصل لمسافر زاده الكلام. من الممكن أن تقرأ في وجوه المرحّبين من أهل الطاقم خبرة في استعمال العلامات قبل استعمال العبارات: هم يتقنون الترحاب بالوجه: ينظرون إليك في عينيك ويهشون لك ويبشون وهم ينطقون بعبارة الترحيب: أهلا، أو مرحبا، في الغالب لا يسمون الخطوط التي يؤمنون رحلتها، ليست حدثا داخلا في الترحيب ذلك يكون عند اقتراب الإقلاع. بساطة عبارة الترحيب أن تكون مختصرة في محيط من العلامات الوجهية الدافعة إلى نشر الطمأنينة وبعث الانشراح. لا تستعمل العربية إلاّ على خطوط بعض الدول العربية، ليست العربية لغة يتقنها الطاقم غير العربي هي ليست ضرورية، على الرغم من أنّ المسافرين الناطقين بها كثر.
بعض الخطوط الجوية لا تستعمل اللغة الإنكليزية لغة أساسية في الترحاب، بل يسعى أصحابها إلى أن يرحبوا بلغتهم الوطنية حتى إذا ما خاطبهم المسافرون بغير لكنتهم غيروا اللسان إلى الإنكليزية. اللغة المحلية هي اللغة التي تخبرك بهوية الطاقم، وإنجاز الإنكليزية قد يكون متأثرا أحيانا بلكنة تلك اللغة، فنطق الفرنسيين بالإنكليزية يحمل تأويلا فرنسيا للنطق الأصلي للكلمة. ما يكتشفه المرء وهو يدخل الطائرة أنه كائن لغوي غير حُرّ؛ هو غير حرّ لأنّ عليه أن يسلم أو يرد السلام، وكأنّ في السلام مفتاح العبور وأن عليه أن يتكلم اللسان الذي يفرض عليه أن يسلم به، أو أن يستعمل لسانا أجنبيا مفهوما أو منتشرا أو وسيطا. في المغادرة يحدث تقريبا المشهد نفسه مشهد التوديع على أمل لقاء جديد على الناقلة نفسها وباستعمال اللغة عينها. يكون الركاب هذه المرّة أكثر بشاشة من الطاقم لأنّهم وضعوا سيقانهم ثانية على الأرض بعد أن طاروا بلا جناح.
أمّا الخطاب التنبيهي، فيبدأ من العلامات الموجودة على الكراسي، سواء أكانت خطوطا أم علامات تصويرية. النهي هو العمل اللغوي المسيطر ثمّ يتلوه الإرشاد إلى النجدة عند الخطر، وعادة ما يستعمل له الأمر. كيف يمكن أن تنقذ حياتك والطائرة في خطر هذا خطاب تنبيهي إرشادي مركزي. قرأت ذات مرّة أنّ راكبا انكسر زجاج نافذته ذات مرة فسُحب نصفه الأعلى إلى الخارج وظلت قدماه في الداخل وسحب بعد جهد وحين دخل كان قد قَضَى.. وقرأت كيف أنّ زجاج الطائرة الأمامي انكسر ذات سفرة فظل قائد الطائرة في مواجهة مميتة لكلّ المخاطر كانوا يحافظون على حياة القائد حتى لا يذهب بعض أشلائه إن طارت إلى أحد المحركين فيعطبهما. الحياة ليست هي المطلب، بل ينبغي أن لا يكون الموت حمّال خطر على حياة الآخرين. هذه أحداث نادرة لا تعالجها خطابات التنبيه في الطائرة.
لا أحد يسمع لتوجيهات من يتكلم لأنّه لا أحد يهتمّ بما قيل. خطاب التنبيه حاله في الطائرة كخطاب الوعظ يبدو ثقيلا مزعجا لا يأبه به أحد. وفي خطاب التنبيه بعض الزجر والتهديد بالمتابعة القضائية، لمن يستعمل مثلا بيوت الخلاء للتدخين.. جميلة تسمية بيوت الخلاء العربية هذه.. لم يفكر العرب أن هذه البيوت ستكون محمولة لا في خلاء الأرض، لكن في خلاء السماء. الزجر بقوانين الأرض لخرق قد يحدث في السماء يمكن أن يكون موضوع تدبّر فقهي قضائي: كيف تتبعنا قوانين الأرض المحلية ونحن في سماء تطلّ على دولة أخرى لها قوانينها المختلفة؟ ثمّ لمَ لا يضعون للسلوك في السماء قوانين، كما يضع البحارة للركاب في البحر قوانين؟ ربما كان ذلك لضيق الوقت، أو لأنّ السماء في هذه الرحلة قوس من الأرض. يمنع تدخين السيجارة الإلكترونية ويمنع شحنها.. منطق ترابطي في المنع فيه تصريح ولا اقتضاء فيه. من سيشحن سيجارته الإلكترونية إن كان ممنوعا من استعمالها؟ لكنه من الممكن أن يدخن سيجارة مشحونة سلفا. صديقي المحامي يدخن سيجارته الإلكترونية معي هذا الصباح في المقهى، وأسأله لماذا يمنع التدخين ما دامت سيجارته لا تسرب دخانا؟ ما زال التدخين ممنوعا حتى للسجائر التي لا تحرق فيها الحشيش.
خطاب الوصف هو أيضا من خطابات الطائرة، إذ يصف الطيار حين يقدم لك معلومات مختلفة عن رقم الرحلة وزمنها المرتقب وربما وصفوا لك أنهم أكملوا التزود بالكيروزان أو أنّ الأمتعة وصلت متأخرة للشحن، أو غير ذلك من المعلومات. هناك معلومات مشتركة بين الناقلات وهناك معلومات خاصة بكلّ شركة طيران، وبالطبع تقال المعلومات بلغتين تكون الإنكليزية إحداها. تقول راكبة إنّهم يصفون كل شيء؟ وما يعنيني إنّ الطائرة في منعرجها الأخير؟ المنعرج الأخير بعد أن حطت الطائرة.. سمعت أنا ذلك في أغلب الطائرات التي ركبتها.. تظل الطائرة بعد هبوطها تسير إلى أن تصل الموقف؛ هم لا يحتفون بالموقف، بل يحتفون بالمنعرج الأخير قبل الموقف. المنعرج الأخير هو عنوان استبشار لمن كانت نفسه تتوق للخروج؛ على الأرض نستبشر حين نعرف أنّ المنعرج الذي نحن فيه هو الأخير قبل الفرج.
حين يطول الانتظار، انتظار انفتاح الأبواب لا أحد يخاطبك؛ فينطلق الوصف الحرّ بين الركاب بحديث شعبي غير رسميّ. الوصف والحكي والتندر والضحك، شيء يدور في الطائرة أثناء طيرانها كأنك في مجتمع محلي متعدد الألسن، تتخاطب فيه كل جماعة مع أفرادها، ومن الصعب أن تربط صداقات في الطائرة، مثلما تربط في القطار مثلا أو في الحافلة: الطائرون إلى البلدان لا يرومون وصفا ولا حديثا مع الغرباء في الغالب؛ ربما طول الرحلة، أو قصرها لا يكون مدعاة للتداعي الحرّ في الحديث؛ أو لأنّ أغلب الحديث أو أهمّ الأحاديث هي التي تقال من الأبواق وترسلها الجهة القائدة.
يقول الطيار بلسان فرنسي مبين، وهو يصل إلى مطار تونس قرطاج الدولي: وصلنا إلى باريس فيضحك الركاب.. لكنّ الأطفال كانوا الأكثر استدامة في الضحك.. ليس من شأن الطيار أن يخطئ في أيّ معلومة؛ عليه أن يعرف قيادة الكلام مثلما يحرص على إيصال الناس بسلام. ولذلك استدرك واعتذر بدعابة خفيفة تذهب الحرج وتقلل من فداحة الخطأ. ليس ما شدني الخطأ، بل ضحك الصبية على الخطأ وسبق اللسان. ثقافة السخرية من الخطأ أو الإزراء بمن يخطئ هي ثقافة من يردّ هازئا بهدف الانتصار على النفس المخطئة. هذا تأويل ممكن أما رأيي أنا بأنّ الضحك سببه أن الوصول في السفر لا يمكن أن يكون انطلاقا من جديد.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية