العائد من الوباء

حجم الخط
0

بعد أن تُفرج عنا منازلنا وتقذفنا من الغُرف إلى الشارع القريب المسترخي تماماً على الرصيف النائم، سيستيقظ الرصيف مذعوراً من نومه، وهو يخلع عن نفسه عبء الشارع ويبدأ بمطاردتنا، ستستيقظ الأرصفة المجاورة أيضاً مذعورةً من نومها لتُعاون شقيقها الرصيف في المطاردة، كشرطيٍّ يطارد لصّاً هارباً وقد أخفى وجهه عن العدالة بأقمشة العزلة، فلم تتعرف الأرصفة على ملامحه المتوارية، يُعجّل الهارب في ركضه لينجو من مطاردة الأرصفة له، فيستنجد بفنجان القهوة الجالس في المقهى والممتلئ بالذكريات، ليتوارى عن أنظار الأرصفة، ولكن الخيبة تكون حاضرة لينحاز الفنجان إلى الأرصفة ويطاردانه معاً، يهرول الهارب مذعوراً ليختبئ في المطعم المجاور للمقهى، ولكن من دون أن يحالفه الحظ، فالصحون ذاتها ترتعب من ملامحه، الصحون الفارغة تماماً من ضجيج الطعام والممتلئة بغبار الانتظار، تلاحقه الصحون، بدورها لتشتدّ المطاردة ويضيق ممر النجاة، يغادر الهارب الحيّ ليلتحق بأول حافلة فارغة من الركاب، ولكن من دون جدوى، فتنضم المقاعد الفارغة إلى فريق المطاردة لينطلق الهارب باتجاه محطة القطار أسفل الحي فيتنبّه القطار النائم إلى خطواتٍ هاربة ويصحو من نومه خائفاً ليطلق صافرةً خائفة تملأ المحطة بضجيج صفيرها.
يطارده المرئيّ واللا مرئيّ إلى أن يصل إلى ساحة السوق المركونة وسط البلدة، ليمزّق الهارب قماش العزلة ويطلق العنان ليصيح بأعلى صوته فيتعرّف عليه المكان مجدداً، ويتحاضنان وتنتهي المطاردة، يعود الهارب إلى ذاته ليلامس جسده بأصابعه، التي لن تحتار أبداً للغَرق في رائحة جسده من دون استئذان منه لتطفو الأصابع حيّةً فوق زَبد الرائحة، يتهيّج الجسد وتتهيّج الرائحة وتتبعثر لتبحث عن شقيقاتها الروائح، كلّ رائحة تبحث عن جزئها المفقود لتعود الرائحة إلى كمالها، وتنتهي الأجساد من محنتها، تتعثر الروائح ببعضها فيعود الحضور متألقاً في الجوار، وتحت الأبصار، تتشابك الأجساد كالأصابع ليعلنوا انتصارهم على العزلة وعلى الوباء وعلى الجائحة، أمّا القلوب المعطلة عن العمل فلن تتردد للعودة إلى مزاولة المهنة ليستأنف الحبّ مسيره، حيث الشِفاه تتعقّب آثار بعضها كقيّافٍ يبحث عن رائحته المفقودة في جسد الآخر، ويسعى جاهداً للعثور عليها، لتتعانق الشفاه في أول مصادفة وأول عثور لها وتأخذ كل شّفةٍ حصّتها من القُبل، أمّا الفائض من القُبل فستسقط من بين الشفاه المتعانقة لتكون من حصّة الشارع الشاهد على العناق، وينهمر ناتج العناق كحبات المطر ليمتلئ الشارع البارد بالقُبل الدافئة، ويحترق برمّته.
أمّا في الضفّة الأخرى المقابلة لضفّة المأساة حيث الطُغاة يسترخون على ظهورهم ويحلمون بالأبدية، ويقهقهون في سرّهم بأنه لا ضجيج بعد الآن يُقلق خيالهم، لا صيحات بعد الآن تصدع جماجمهم، لا جياع بعد الآن يقرعون الطناجر الفارغة من الطعام، ولكنهم لا يدركون بأن الحلم اقترب من نهايته لتعود الساحات والشوارع والأزقّة إلى صيحات البؤساء وتمتلئ بالضجيج .

٭ كاتب وشاعر سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية