في مسكليّاني بلادِ الماء حيث ولدتُ، لا صارٍ أفكُّ حبالهُ، لا فُلك أصنعُها وأركبها، ولا بحرٌ ولا مَرسى. وليس هناك مجذافٌ من المطّاط في القدمينِ أمشي كالمسيح على المياه به وأجري، أو أحلّقُ في سباقِ زوارقٍ، أو برزخٍ من ضفّتينِ.
وليس لي لُعبٌ سوى خذروفيَ الخرّارِ (بعضِ مخلّفات الحرب والألمانِ) موسيقى تدورُ بنا.
أبي المختارُ؟ صقّالُ المعادنِ في الجبالِ، ببندقيّتهِ الفتيلةِ، صائدُ الغزلانِ.
جدّي؟ أردشير النرد، لكنْ راصدُ الأفلاك، إذ يُفتي بأحكامِ النجوم وسمتِها؛
بعصا الخوارزمِيِّ علّمنا نقيس بناتِ نعشٍ، بالأصابعِ نجمةً ومسافةً، بالظلّ في عزّ الظهيرةِ نجمَنا القطبيَّ، خطَّ العرضِ، خطَّ الطولِ.
عمّي؟ لاعب الشطرنج، مُختبِرُ المغاور حيث كان الموتُ رقّاصُ الأفاعي لابدًا في الظلِّ.
أمّي؟ أختُ منساجٍ وبَكْراتٍ من الخيطانِ حيث الليلُ يرقدُ هانئا في مائه الزيتيِّ، أو في نصْفِ صائتهِ، وحيث الفجرُ كان يُصَعّد النفَسَ الأخير على التلال، بحرْفهِ المهتوتِ.
أوّلَ بهجتي كان اختراقُ الريحِ،
أوّلَ لعبتي كان اختراقُ الظلِّ.
كانت من وراء البيتِ تبدأ غابةٌ،
كنّا تعلّمنا صغارا كيف ندخلُ نحن من مُتفرّقِ الأبوابِ حتّى عنفوانِ نباتِها؛
أصواتُنا كانت تدوّي في قرونِ غزالةٍ، أو قرنِ ثور هائجٍ؛
ذرّيّة الحيوانِ نحن ننطّ من وجهِ الظلال إلى قفاها
ثمّ ننشرُ ريشَنا مستوفزينَ (لعلّنا طرنا ولا ندري)؛
أخي؟ رسّامُ جدْرانٍ بأوراقٍ ملوّنةٍ وطبْشورٍ،
أنا؟ لا شيءَ غيرَ الصمتِ كان يُوسّع الدنيا، يمطُّ الوقت لي،
أوْ كانَ بي هوسُ المرايا، ربّما!
٭ ٭ ٭
في مسكليّاني بلادِ الماء حيث أموتُ، لا جنّازَ كان لراحة الأمواتِ،
لا فردوسَ، لا «يمبوسَ» قبل مجيء سيّدنا ولا من بعدهِ،
لا شيء غيرَ عويلهنَّ، نساؤنا في الموتِ، يصعدُ من تخوم الروحِ؛
(أذْكرُ حين ماتتْ أختيَ الصغرى سؤاليَ شاخصًا: لِمَ ذا؟)
وغيرَ غنائهنَّ هياج أفراسٍ على نيران أعراسٍ؛
هنالك في تخومِ جبالها أو في حواشي كوكبٍ؛
يَحبلنَ من ريحٍ ومن مطرٍ،
وغيرَ قِرابهنّ؛ غضاضةُ الأسماكِ في جَنْبيَّ مازالتْ، ورائحةُ البحارِ حليبهنّ؛
وكان يُسكرنا (كما الكونياكُ في السبعينَ، هلْ حقّا كبرنا يا أبي؟)
٭ ٭ ٭
لكنّ بابًا واحدا لخروجنا كنّا نرى منه سَمائيّاتِ أعلى مسرحِ الرومانِ،
نُقعي في جناحيْهم؛ وتلك سماؤنا يا قنّةَ الثلج المعلّقِ في الجبال بعيدةً
والآن أعرفُ
كان كوْمةَ ملحِها ووميضَهُ.
٭ ٭ ٭
من غابةٍ كانت وراء البيتِ،
لي ناقوسُكِ الخشبيُّ يُقرع في تخوم الروح، عالقةً هنالكَ
في عُرى أجراسهِ الخرساءِ،
من خذروفيَ الخرّارِ موسيقى تدورُ بنا؛
ولي من سقْسقاتِ الماءِ،
إيقاعاتُ دوّاماتهِ تجري بها الكلماتُ إذ تلتفّ في خيط القصيدةِ
كالأفاعي في العصيّ؛ وربّما كخيوط مغزلها
ولي
من رقْعةِ الشطرنج نَصبتُها، أُسَيّرُ لفظةً وأردّ قافيةً؛
وهندسةُ الفراغِ، لعلّني أحتالُ للكلماتِ تَسبُتُ في بناءٍ هندسيٍّ،
من فصوصِ النرد لي ذكراهُ
(جدّي وهْوَ في يُوبيلهِ الماسيِّ حيٌّ ضاحكٌ كحجارةِ الإسفنجِ، لي: إيّاكَ، لا تهرمْ)
ولي حظّي من الكلماتِ (من صمتي وأعني جيّدا أرضي البَراحَ) وحظُّها
بيضاءَ أو سوداءَ مثلَ فصوصهِ؛
وتقلّبُ الأيّامِ بي وبهِ،
ولي في الحوضِ وَسْطَ الحقل، بوصلةٌ له سَمَكيّةٌ؛ نستقبلُ القطبَ الجنوبَ بوجهها القطبَ الشمالَ بظهرها؛
ولصائدِ الغزلانِ أغنيتي مدوّرةً تطوف به،
ولي أسماؤهمْ علّقتها في رِجْلِ بازٍ حلْقة؛
وكتبتُ هذي كلّ أنسابي، وهذي كلّ عائلتي.
٭ مسكليّاني:اسم مدينة حاجب العيون التونسيّة في العهد الروماني