امتلأتْ صفحات الفيسبوك ببوستات عجيبة لم يدعُ إليها أحد. تداعتْ متتالية، كأن هناك دعوة في الكون بالخروج على ما يعرفه الناس . هكذا علَّق عليها أحد المشتركين في الموقع.
«أشياء كثيرة تحدث هذه الليلة بالقاهرة وعموم القطر المصري . عاصفة هوائية ضربتْ السواحل البَحْرِيَّة، وظهر على شاطئ الساحل الشّماليّ عدد من أسماك القرش ميتة، وكان من بينها أكثر من سمكة قرش، تخرج من فمها أقدام سوداء لحيوان صغير، جذبه بعض بدو الصحراء، فخرجتْ في أيديهم بقايا قرود. كيف نزلت القرود إلى الماء؟ لا أحد يعرف. يقال إنه أيضاً وُجد في جوف بعضها صُرَر من البلاستيك السميك، فيها كمِّيَّات من الحشيش، وشاع أن أسعار الحشيش ستهبط كثيراً جدَّاً، وأن نوعاً فاتناً ظهر في الأسواق، يسمُّونه «حشيش الإرهاب». ظهر حوت ضخم على الشاطئ قرب الحدود اللِّيبيَّة المصرية، فتحوا بطنه أيضاً، لعلَّهم يجدون حشيشاً أو أفيوناً، فوجدوا أنور السادات وحسن البنَّا يضحكان ويلعبان الورق. في جميع مستشفيات مصر للولادة وجدوا كل الأطفال المولودين يتحدثون بلغة لا يفهمها أحد، وجلودهم كلها جاءت بيضاء من الأمام سوداء من الخلف، ولكل منهم أنف بها فتحة واحدة، وكذلك له أذن واحدة، وفي جبهته، وتمَّ نقل بعضهم كعيِّنة إلى معامل كُلِّيَّة الزراعة بالقاهرة لدراسة هذا النسل الغريب، وتحديد هويته ومرتبته في تاريخ التَّطوُّر. شواطئ البحار كلها يقف عليها آلاف من الرجال، ينادون على النساء. كلهم أصبحوا، فلم يجدوا زوجاتهم على الأَسِرَّة جوارهم، وكلهم حلموا بحلم واحد، فيه حملت طيور أسطورية النساء، ونزلت بهنّ إلى الماء. شواطئ البحر الأحمر وحدها نجتْ من كل هذه الظواهر، فلا ظهرتْ عليها أسماك قرش، ولا حيتان، لكنْ، فجأة خرجتْ خرفان سوداء من الماء، وراحتْ تهزُّ جسمها، وتُنزِل ما على فروتها من بقاياه، وتأخذ طريقها الآن إلى القاهرة، فخرج الناس إليها من المحافظات القريبة، يقفون على شاطئ قناة السويس، يستقبلونها بالعلف وحِزم البرسيم والعربات الصغيرة، لينقلوها إلى بيوتهم، حتَّى إن أحداً لم يذهب إلى عمله، وخلت مكاتب الحكومة من الموظّفين، ولم تُفتَح الأسواق، وأُغلقت المحلَّات التِّجاريَّة في الشوارع . قيل إن رجلاً يظهر في شوارع القاهرة بعد منتصف الليل يغنِّي ومعه فرقة من الطيور تغرِّد فوقه وترفرف، والناس أمضوا الليل في الشرفات التي تطلُّ على الشوارع يسمعون ويهلِّلون، ثمَّ توقَّف الرجل وفوقه فرقة الطيور في نهاية شارع كلوت بك حين يتَّصل بميدان رمسيس، لأن الميدان امتلأ بالثعابين الضخمة التي تصل ذيولها إلى أبواب المحطَّة، بينما يرتفع نصفها الأمامي حاملاً أفواهاً مفتوحة، تهدِّد كل مَنْ يقترب بالابتلاع. حين أراد الرجل أن يهرب استدار داخلاً شارع الفجالة، فابتلعه في مدخله ثعبان رهيب، ارتفع بعدها عالياً، ليصل إلى الطيور، لكن أفواه الطيور صارت مثل سكاكين، راحت تقطع في جسم الثعبان بسرعة وقوَّة، وأخرجو الرجل من بطنه، وراح يعزف من جديد، ونزلت الناس من البيوت، تتسابق للفوز بقِطَع من الثعبان الذي مزَّقتْهُ الطيور أو قِطَع من جِلْده. ورأت الثعابين الأخرى ما يحدث أمامها، فتراجعتْ إلى داخل المحطَّة، واستقلَّتْ قطاراً فارغاً من البشر، وقاده واحد منها إلى الصعيد. صدرت التعليمات أن لا يقف أحد على أيِّ محطَّة من القاهرة إلى أسوان، ولا يُغيِّر عمَّال التحويلات في السِّكَّة الحديد طريق القطار، ولتفتح المزلقانات له، فالثعابين ستصل إلى أسوان، وتأخذ طريقها إلى بحيرة ناصر، لتنزل تعيش فيها، فهي أصلاً منها، ولقد أتتْ بها إلى القاهرة عناصر من تنظيم مجهول، تعمل الدولة على معرفته، والوصول إلى أصحابه، لكن الدولة التي تعرف مصدرها تعترف بالخطأ، إذ إنها هي التي أوعزتْ لها أن تخرج من البحيرة تشمّ شيئاً من الهواء، لكنها تمرَّدتْ وانصاعتْ وراء الدعوات الإرهابية، وأرادتْ أن تحتلَّ الميادين، وتمارس الإرهاب، لكنْ، الحمد لله، الدولة استطاعت أن تخدعها وتُعيدها إلى حيثُ كانتْ. للأسف عشرات الشباب لم ينصاعوا لبيان الحكومة بعدم الوقوف على المحطَّات، ووقف الكثير منهم على محطَّات بني سويف والمنيا وسوهاج وأسيوط وقنا والأقصر، فطالتْهم رؤوس الثعابين، وابتلعتْهم. إن ما جرى مع هذه الثعابين يؤكِّد أن الدولة على حقٍّ في التضييق على الشعب، فها هي الثعابين لم تكتفِ بالهواء، وأرادات السيطرة على الحكم. فعلاً كان العثمانيون على حقٍّ حين قالوا إن المصريِّيْن لا تقودهم إلَّا العصا. الدولة التي هي على خلاف مع تركيا وجدتْ أن العثمانيِّيْن على حقٍّ، يا جدعان، في تمييزها للمصريِّيْن! لماذا لا يفكِّر أحد أبداً أن أيَّ شعب في الدنيا يمكن أن يُقاد بالعصا، ما دام مَنْ يستخدمون العصا لا يحاسبهم أحد؟! بينما قال آخر إنه يُصدِّق ما يقال عن المصريِّيْن، فعمرو بن العاص كان على حقٍّ من قَبل العثمانيِّيْن بقرون حين قال عن مصر، أرضها ذهب، ونساؤها لعب، ورجالها لمَنْ غَلَب! وقال ثالث إنه عمل من قبل في العراق، وعرف أن العرب بعد أن غزوها قالوا الكلام نفسه عن أهلها، ويبدو أن العرب قالوا ذلك عن كل البلاد الزِّراعيَّة التي غزوها حين رأوا نساءَها، تبدو عليهنَّ نعمة الغذاء ! وعلى ذكر النساء حوريات الأرض المصريات، ارتفع أذان الفجر من كل الجوامع بأصوات النساء، فجرى الرجال إلى المساجد، لا يُصدِّقون، فوجدوها خدعة، والفجر لم يرتفع به الأذان بعد. كيف يتمُّ حمل النساء إلى البحار؟ وكيف ترتفع أصواتهنَّ من المآذن؟ لغز تعمل لجنة مستقبل أُمَّة على دراسته وتمحيصه ودعكه في الحائط حتَّى يظهر جوهره. المؤامرة على مصر تتَّسع، وتشترك فيها قوى غيبية، وهذا يدعو إلى الحذر. البرلمان يجتمع في عهد الخديوي إسماعيل لأوَّل مرَّة، فيغلب النوم كل أعضائه، وتسقط عممهم وطرابيشهم على الأرض، ويكون التصويت على القرارات بالشخير في ظاهرة لم تحدث من قبل. وهذا يؤكِّد أن الأعضاء لا يتخلّون عن مصر في اليقظة والمنام. الدولة تحاول فكَّ شفرة هذه الأحداث كلها، تعلن للناس أن عليكم ألَّا تذهبوا إلى الجوامع ليلاً هذه الأيَّام، وأغلقوا بيوتكم جيِّداً حتَّى لا تحمل الطيورُ النساءَ الباقياتِ إلى البحر، فستفقدوا كل دفء، وليس لدى الدولة القدرة على تعويض مَنْ فَقَدَ زوجته أو عشيقته بأخرى، وليس لدى الدولة بطَّانيَّة واحدة، تُدفِئ بها أحداً، كما أن هذا ليس من عمل الدول. تحذِّركم الدولة من الإشاعات بأن تحت كل بيت كنزاً أثرياً قديماً، فَمَنْ سيحفر تحت بيته، سينهدم. مصر بلد فقير منهوب طوال التاريخ. وتذكِّركم الدولة التي لا تكذب بذلك، فساعدوها على الحفاظ على ما بقي من أملاككم. طابور من الفنَّانين مطربين وموسيقيِّيْن يظهرون على جانبَي شارع الهرم، والملاهي اللَّيليَّة قد عادت من جديد. على باب كل ملهى يقف مطرب عظيم منذُ عبده الحامولي إلى عمرو دياب، ومعه مغنِّية منذُ ساكنة باشا حتَّى شيرين عبد الوهاب. ورغم أن شيرين هذه قد قالت إن «اللي بيتكلّم في مصر بيتسجن» فالدولة أعطتْها أكبر فرصة للكلام والغناء، وأعادتْ ملاهي الشارع من أجل خاطرها، وتقف دائماً شيرين متكرِّرة بنفسها أمام كل ملهى، فأصبح هناك عشرة شيرين، وحول كل منهنَّ أجمل راقصات مصر، كيتي وسامية جمال وتحية كاريوكا ونعيمة عاكف ونجوى فؤاد وسهير زكي. طابور خامس يظهر بالليل لعدَّة أيَّام، ينزع كل لافتات أسماء الشوارع التي وُضعت منذُ ثورة يوليو 1952 ويضع بدلاً منها أسماء أعلام في الفنِّ والثقافة والفكر والعلوم، ممَّا يُسبِّب الإحراج للدولة التي عيَّنتْ فريقاً من العمَّال لإعادة اللَّافتات القديمة، لكنْ، لا يزال المتآمرون يجدون السُّبُل للظهور خفية، وجعلوا على أطراف الشوارع كلها لافتة كتبها مجنون من قبل على الشارع المجاور للمركز الثَّقافيِّ الفرنسي. « شارع الجنس « . هذه المرَّة لم يكتبوها بالطباشيرمثل المجنون الذي كتب اللافتة الأولي ، لكنهم حفروها على اللَّافتات المعدنية، والدولة تحذِّر كل محلَّات المعادن من نحاس وحديد وغيره في منطقة النَّحَّاسين بالجمالية وغيرها، من بيع أيِّ لافتات منذُ اليوم لأيِّ شخص لا يحمل رخصة بالعمل من مكاتب الأحياء الرَّسميَّة لمدينة القاهرة أو غيرها من المُدُن. قرار مهمّ صدر من أجل الاستقرار والنهضة بالإفراج عن كل المعتقلين والمحبوسين بسبب جرائم رأي، ومديرو السجون والجنود يفتحون لهم الطريق في كل السجون إلى الخارج. بعد أن انتهى خروجهم، وأُغلقت السجون على أصحاب الجرائم الجنائية، اكتشفتْ مصلحة السجون أن مَنْ خرج هم الجنائيون، وليس السِّياسيِّيْن، وأن السِّياسيِّيْن خدعوا الدولة، فأخرجوا الجنائيِّيْن لإشاعة الفوضى في البلاد، لكنْ، مصر حفظها الله، ولن يقدر عليها أحد! قرَّرت الأحزاب والجمعيات الحقوقية أن يكون أمام كل حزب أو جمعية حقوقية عربة لتقديم الفول والطعمية مجَّاناً للمتجوِّلين أمامها، والدولة تشكر الأحزاب والجمعيات الحقوقية على هذه الخطوة، وتعتذر لعدم وجود فول أصلاً بعد أن انتهتْ زراعته، ويتمُّ الآن استخراج نبات جديد، يطرح ثمرة الطعمية مَقليَّة ومَحشوَّة، وسيتمُّ توزيعه على الناس لزراعته على الأسطح وفي البلكونات، وتوفير أسعار الساندوتشات. قائمة الدول التي طلبتْ بذور هذه الشجرة طويلة، تمتدُّ من العالم العربي إلى أميركا الجنوبية.
أوَّل جريمة قتل بسبب هذه الشجرة تحدث في الوايلي، حيثُ طلبت امرأة من زوجها أن يشتري لها بذرة شجرة، تطرح الطعمية مَحشوَّة وبالسمسم، وهو قدراته المالية ضعيفة، فأرادها شجرة للطعمية العادية، فغضبتْ منه، فقتلها. مظاهرات حاشدة من النساء في المُدُن بعد اختفاء نصفهنَّ في البحر، تطالب بتعدُّد الأزواج شفقة بالرجال الذين ترمَّلوا أو لا يجدون مَنْ يتزوَّجوهنَّ، واحتجاج كبير في الأزهر واجتماعات للجنة الفتوى ولعلماء الإسلام لإصدار البيانات التي تؤكِّد على حرمة ذلك، وانتشار رجال الدِّين في القرى والمُدُن لإقناع الناس بعدم الانجذاب إلى هذا الهراء. للمرأة رجل واحد، والحكمة واضحة، هي صحَّة النسب، والأزهر ورجال الدِّين ملّوا من توضيح الحقائق التي لا تقبل الكذب، والقبض على ناشطات، رَدَدْنَ على الأزهر ولجان الفتوى بأن معرفة النسب الآن أصبحت سهلة، بكشف الدي إن إيه. أحد المشايخ يتجرَّأ في قناة خارجية، ويقول، على المصريِّيْن الآن التَّغلُّب على الأزمة بمعاشرة الغلمان، ويقترح على الدولة التي لا تعرف طريقة لصيانة أولاد الشوارع من الضياع، أن تُوزِّعهم غلماناً على الأغنياء ورجال المال والأعمال. الأزهر يردُّ على هذا الشيخ المأجور، ويعلن تكفيره وخروجه من الملَّة، والبرامج التّلفزيونيّة تنشر له سيديهات، كانتْ تحتفظ بها جهات سيادية، توضح كيف قُبض عليه وهو يمارس الجنس مع زوجته وأختها في وقت واحد، وخيَّرتْهُ بين السجن أو الرحيل، فغادر البلاد، وظهر بعد عشرين سنة متصوِّراً أن الجهات السِّياديَّة قد نسيتْ ما فعله ليقول هذا الهراء. استغاثات من أصحاب هذه البوستات وهذه التعليقات إلى الفيس بوك لحظر أصحابها، وعدد كبير ممَّنْ كتبوها يطلبون من الآخرين المساعدة بلايك أو نكز، فهم لم يقصدوا إلَّا المزاح. وشيئاً فشيئاً اختفتْ صفحات كثيرة، وقَلَّتِ التعليقات، فاقترح أحد الشباب أن يقوم مَنْ أعجبتْهُ هذه البوستات بحملة لنشر صور عارية للرجال والنساء، فهنا لن تقوم لجان من أيِّ نوع بالإخطارات المضادَّة إلى الفيسبوك، لأن الرجال سيُعجبون بصور النساء، والنساء سيُعجبنَ بصور الرجال، واقترح على إدارة الفيسبوك أن تحذف كل ما كتب من قبل، باستثناء إعادة اللَّافتة التي كانتْ مكتوبة على الشارع المجاور للمركز الثَّقافيِّ الفرنسي، فهي لا تضرُّ أحداً، لا من الدولة، ولا من الشعب، بل هي أمل لكل الناس، ولمَّا ردَّ عليه آخر أن اللَّافتة كانتْ مكتوبة بالطباشير، وتمَّ مسحها، فلم تعد موجودة، اقترح أن توضع لافتة تحمل جملة «شارع اللَّافتة المحذوفة» على كل الشوارع.
فصل من رواية «العابرة « لإبراهيم عبد المجيد تصدر في معرض القاهرة للكتاب