العالم عنابي

خلدون الشيخ
حجم الخط
0

بعد سبعة أيام ستتنفس قطر الصعداء بانطلاق نهائيات كأس العالم بعد 12 عاما من العمل الدؤوب والجبار لجعل هذه البقعة العربية الاسلامية واحة حاضنة لجميع الأجناس والأعراق والشعوب، لتنتقل الفكرة من المخيلة الى أرض الواقع بصورة يصعب على الكثيرين استيعابها لما تخلله الامر من مشقة وسهر وعناية فائقة وصولا الى ركلة البداية بين قطـــر والاكوادور الاحد المقبل في استاد «البيت».
عندما أعلن الرئيس السابق للفيفا جوزيف بلاتر عن هوية الدولة الفائزة لاستضافة البطولة في ديسمبر/كانون الأول 2010، قلة آمنت بأن هذه الدولة الصغيرة، ستنجح في استضافة هذا الحدث الضخم الذي يحدث مرة كل أربع سنوات، بل أن كثيرين شككوا في قدرة استيعاب البلاد لمتطلبات الحدث من انشاء ملاعب ومراكز تدريب عالية الجودة وانشاء بنى تحتية، بينها طرقات ووسائل نقل ومواصلات وفنادق اقامة وأماكن ترفيه، بل اعتبر البعض انه من الاستحالة الانتقال من مرحلة بداية الحداثة الى مواكبة استضافة حدث كبير ككأس العالم في غضون 12 عاماً.
يقف القطريون اليوم بأذرع مفتوحة ورؤوس شامخة مرحبين بالعالم لرؤية من سيبهر ويبقى عالقاً في الأذهان على مدى سنوات وعقود.

متعة كروية

كروياً، كل العمالقة سيكونون موجودين باستثناء المنتخب الايطالي، ومن النجوم سيكون عدد لا بأس به عدم تأهل منتخباتهم، على غرار النجم المصري محمد صلاح والمهاجم النرويجي ايرلنغ هالاند والجناح الايطالي فيديريكو كييزا، بالاضافة عدد كبير من المصابين أبرزهم بطلا العالم مع المنتخب الفرنسي بول بوغبا ونغولو كانتي، وفيليب كوتينيو مع البرازيل.
وسيكون مثيراً كيفية تعامل مدربي المنتخبات مع وقت قصير جداً لتحضير فرقهم وبنجوم عائدين من بطولات ودوريات مختلفة، بل ومن فرق بأساليب مختلفة، ما يعد بمنافسات حامية ونتائج غير متوقعة، تسمح بحدوث مفاجآت من العيار الثقيل. وطبعاً ستكون هناك 5 أو 6 منتخبات تعد مرشحة بقوة على غرار الارجنتين وحاملة اللقب فرنسا ودائما ألمانيا وانكلترا وبلجيكا والبرتغال، لكن أبرز المرشحين على الاطلاق سيكون المنتخب البرازيلي، الذي يدخل البطولة مجدداً بنجوم من العيار الثقيل في كل المراكز، حتى نقطة ضعفه الازلية في حراسة المرمى، لديه فيها حارسان من النخبة (أليسون وايدرسون) لكن المخيف هو في مواهب الخط الهجومي الذي اصطحب تيتي معه منهم 9، هم من ثلث الفريق.

ثقافة عربية

منذ اليوم الاول للاعلان عن استضافة قطر للمونديال، وهي تعمل على ابراز المعالم العربية والاسلامية وثقافتيهما في جوانب البطولة، من بناء الاستادات والشعارات واللوحات المحيطة في أنحاء البلاد.
ويحمل شعار البطولة لونَي علم قطر الأبيض والعنابي، واستوحي الشكل من الرقم 8 وهو عدد ملاعب المونديال. لكن بحسب المنظمين، يرمز الشعار أيضا إلى «لانهاية» ارث كأس العالم في قطر بعد انتهائها، والوشاح الصوفي، وحتى تموجات كثبان الصحراء. وتستحضر الزخارف الزهرية الموجودة في أسفل الشعار «الفن العربي التقليدي»، فيما ترمز النقطتان المحيطتان بكرة القدم في أعلى اليسار والفراغ في وسط كلمة «قطر» إلى الخط العربي.
وترمز تعويذة كأس العالم «لعّيب» إلى الغترة والعقال التقليديين في منطقة الخليج ويمكن مشاهدتها في كل مكان في شوارع الدوحة. وسخر بعض مستخدمي الإنترنت من تشابهها مع شخصية الكرتون «كاسبر»، ولكن «لعّيب» أصبح أيضا رمزا رقميا يتم تداوله على منصات البلوكتشين. والملصق الرسمي الذي يظهر عند البوابة «دي-18» في مطار حمد الدولي في الدوحة، عبارة عن صورة بالأبيض والأسود ليد مرفوعة نحو السماء ملوّحة بالغترة والعقال. وتعلو اليد كرة قدم بألوان علم قطر الأبيض والعنابي وكلمة «هيّا» و»2022». و»هيّا» هو كذلك الاسم الذي أُطلق على بطاقة المشجعين المخصّصة لدخول الإمارة والملاعب ولاستخدام وسائل النقل المجانية. ونفّذت الملصق الفنانة القطرية بثينة المفتاح التي أنتجت سبعة ملصقات أخرى بالأبيض والأسود تمثّل حركات فنية في كرة القدم في الصحراء. وتستحضر العديد من الملاعب عناصر من ثقافة المنطقة، بينها «الثمامة» الذي يرمز للغترة، و»البيت» المستوحى من الخيام البدوية، و»الجنوب» الذي يرمز للمراكب التقليدية، و»لوسيل» القريب من الفوانيس الحرفية.
وفي حين أن نهائيات كأس العالم السابقة كانت تشتهر بأغنية واحدة، سيكون لبطولة قطر العديد من الأغاني، يتم الكشف عنها الواحدة تلو الأخرى منذ نيسان/أبريل. وتحمل الاولى اسم «هيا هيا» وتجمع المغنية الامريكية ترينيداد كاردونا والنيجيري الأمريكي دافيدو والقطرية عائشة. كما استوحيت ساعة العد التنازلي للبطولة من شعار كأس العالم الذي يرمز أيضا للساعة الرملية. وتم تثبيتها عند كورنيش الدوحة بالقرب من مناطق المشجعين الرئيسية، في مقابل أبراج منطقة الخليج التجاري التي أُلصقت عليها صور عملاقة لنجوم الفرق الـ32.

ضريبة الاستضافة

في الأسابيع الاخيرة، وعلى نحو متوقع، بالنسبة لي على الأقل، زادت حدة الانتقادات السياسية والمجتمعية والحقوقية التي أوجعت القطريين، الذين اضطروا الى استخدام مخالبهم الاعلامية للرد، لكن الأمر ليس غريباً أن يحدث على مستضيف المونديال، ولم يكن غريباً على مستضيفي المونديالات السابقة، لأنها «ضريبة» تدفع لكونك مركز جذب أنظار العالم بأسره على مدى شهر من الزمن، ولغرابة الامر فانها امتدت منذ بداية الاعلان عن الفوز بشرف الاستضافة في 2010 الى اليوم. لكن اذا عدنا الى الوراء في التاريخ، سنجد أن كل الدول المستضيفة للأحداث الرياضية الكبرى عموماً، ولنهائيات كأس العالم خصوصاً تعرضت لانتقادات حادة قبل موعد الحدث بقليل، فقبل مونديال 2006 التي استضافتها ألمانيا، انتشرت تقارير مرعبة عن الهوليغانز ومثيري الشغب وانتشار العنصرية بصورة مرعبة في البلاد، عدا عن رواج تجارة الجنس وتهريب القاصرات، وطبعاً هو شيء سلبي، لكن هل عكست هذه التقارير كل الحقيقة؟ وقبل مونديال 2010 في جنوب افريقيا انتشرت تقارير مرعبة عن الجريمة في الشوارع والسرقات في وضح النهار وتجارتي الجنس والبشر، فيما ركز الاعلام قبل مونديال البرازيل 2014 على تعامل الشرطة «الوحشي» مع المتظاهرين المحليين، وعلى الحالة المعيشية المزرية والترحيل القصري لسكان البيوت البدائية القريبة من الاستادات، عدا عن وفيات العمال وعدم اكتمال عمليات بناء الاستادات عشية انطلاق المنافسات. وفي 2018 في روسيا كانت الصحافة الغربية نشطة في سرد السلبيات، وبينها الحالة المزرية التي يعيشها المشردون من أبناء البلاد والمهاجرين واللاجئين.
القطريون اضطروا الى الرد على كل سلبية وانتقاد، بحسن نية وبمحاولة اثبات العكس، وهو في بعض الاحيان كان خطأ لأنه قاد الى مزيد من الاتهامات، فلما أثير التشكيك في القدرة على الاستضافة لصغر حجم البلاد، عكس القطريون هذه الفكرة الى ايجابية بالاعلان عن أن الاستادات الثمانية ستكون الاكثر قرباً من بعضها بعضاً مقارنة مع بلد أي مستضيف آخر، أي ما يسمح بقلة وقت السفر والتنقل للمنتخبات وأيضاً للمشجعين. وبعدها تفطن بعض المنتقدين الى أن حرارة الطقس في فصل الصيف في البلد الخليجي ستكون مرتفعة جداً الى درجة لن يحتملها اللاعبون والحضور، فجاءت فكرة نقل المونديال من صيفي الى شتوي، بل جاهد القطريون لايجاد الحلول، ومنها بناء استادات مجهزة بتقنية تبريد متطورة لحل المشكلة، وهو ما حصل. وما لبثت أن نشرت صحف مرموقة مدعومة من مراكز استخباراتية عن شراء القطريين لأصوات استضافة المونديال، وهو ما قاد الى هدم بيت الفيفا فوق رؤوس الفاسدين وعلى رأسهم رئيس الفيفا السابق جوزيف بلاتر. ومع صراع القطريين على ازاحة كل المعوقات وتذليل العقبات، فان جمعيات حقوقية أرادت قطعة من كعكة الجدل، فتارة تتحدث تقارير صحفية عن الحالة المزرية لعمال بناء الاستادات ما قاد تلقائياً الى انتقادات حادة من نجوم كرة القدم خلال مباريات الفيفا الدولية، عبر وقفات تضامنية دعماً لعمال منشآت البطولة، وربما هؤلاء النجوم هم أقل علماً وأكثر جهلاً مما حقاً يحصل في البلد الخليجي، وفي الواقع هي صورة قاتمة لبلد بذل كل ما يملك من مال وجهد وخبرة، لتكون تجربة المونديال مثالية، بل بذل جهوداً أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة لتحسين ظروف العمال الأجانب الذين اذا تابعنا حالاتهم المعيشية سنجدها في الدوحة أفضل بكثير منها في بلدانهم الاصلية، ووقع القطريون اتفاقيات عدة مع منظمات حقوقية، بينها «منظمة العفو الدولية». قبل ان تدخل على الخط منظمات أخرى، كجمعيات حقوق المثليين، الذين استغلوا لحظات التركيز السلبي على قطر، بنشر مطالبهم والترويج لها. ومع ذلك كان القطريون واضحين بالاعلان ان البلاد تفتح ذراعيها للجميع بدون استثناء أو تمييز، لكن في المقابل قطر أيضاً تنتظر ان يحترم الجميع قوانينها وسلمها.
نعم في قطر ستكون هناك محاولات من الجميع لنشر أفكاره والترويج لمشاريعه كون أنظار العالم شاخصة نحو هذه البقعة، وستحاول المنتخبات واللاعبون بحسب ما تم اقناعهم به، كدعم جمعيات المثليين أو الوقوف الى جانب أوكرانيا في حربها مع روسيا، مثلما سيفعل قائد بولندا روبرت ليفاندوسكي الذي سيرتدي شارة القيادة على كتفه مزينة بعلم أوكرانيا، مثلما يرتدي قائد انكلترا هاري كاين و8 قائدي منتخبات أوروبية أخرى شارة علم المثليين، رغم ان الجميع ينتظر فقط أن يشاهد مباريات كرة قدم مثيرة وحماسية في أجواء وملاعب مبهرة، وهنا يأتي دور الفيفا في وضع نقطة نظام لأن قوانينه واضحة في منع أي رسائل سياسية أو حقوقية او تجارية في الملاعب خلال المباريات.
ومع ذلك ظلت طبول التشكيك تدق بحرارة على مدى الأعوام الـ12 الماضية، لتجريد هذا البلد العربي المسلم من استضافة حدث عالمي يقود الى الفخر والعزة، بل الى المنفعة على كثيرين في عالمنا، وربما نستدرك بل نتوقع الانتقادات كنوع من العادات التقليدية يتعرض لها كل مستضيف لحدث رياضي كبير، ونتفهم عقلية الاوروبيين في التأثر بتقارير حقوقية، لكن هناك بعضاً آخر لا يمكن فهمه أو تقبله، ولهذا أرى أنه من «مضيعة الوقت» الرد على ارتداء المنتخب الدنماركي قمصانا «سياسية» أو رسالة لاعبي المنتخب الأسترالي المؤيدة لحقوق العمال أو غيرها من المنغصات، لأنه بمجرد انطلاق ركلة البداية لن نعود نسمع عن أي مشكلة أو أزمة، وأنا أتحدى كل المنتقدين لو أن أحداً منهم تفوه بكلمة عقب نهاية المونديال، لأن الجميع ركب الموجة، وعلى قطر تحمل «ضريبة» يدفعها كل مستضيف لحدث رياضي كبير.

تضارب الحضارات

تذكرني محاولة البريطاني بيتر ثاتشيل الذي تظاهر بصورة منفردة في الدوحة مدافعاً عن حقوق مجتمع الميم، باسلامي متزمت يتظاهر أمام البرلمان البريطاني مطالباً بتطبيق الشريعة الاسلامية، فالأول يريد الترويج لفكرة «مرفوضة» ليس في البلدان العربية والاسلامية فحسب، بل هو مضطهد من غالبية المجتمعات الاوروبية، والثاني يعتقد ان برلماناً غالبيته العظمى من المسيحيين أو اللادينيين سيلقى منهم آذانا صاغية.
الغريب في موضوع حقوق المثليين، ان ثاتشيل لا يسعى الى انشاء حزب سياسي ولا حركة ثورية ذات تطلعات فلسفية، بل هو يدافع عن حرية ممارسة سلوك معين، تعتبره غالبية الشعوب، أنه سلوك شاذ ومنحرف عن القاعدة العامة، لأنه ينافي الطبيعة البشرية، ولهذا تتطلب الحكمة بالابقاء عليه مستترا وليس بالترويج له، وبالتأكيد ليس بصب الغضب على القطريين. لكن لاعبة كرة قدم انكليزية سابقة، وهي ليان ساندرسون، وهي مثلية الجنس أيضاً، كانت صريحة عندما قالت في إذاعة انكليزية ان هناك مبالغة في انتقاد القطريين، بل قالت انها شعرت بالأمان في كل زيارة لها لهذا البلد، بل هو أكثر أماناً لشخص «مثلي الجنس» مثلها، من زياراتها الى مناطق أوروبية في الدول الشرقية أو حتى في ايطاليا واسبانيا.
كل هذا سينتهي بمجرد انطلاق ركلة البداية الاحد المقبل، وكله سينسى بمجرد انتهاء منافسات البطولة، وربما لن يتحدث العالم سوى عن الانبهار الذي عاشوه على مدى 4 أسابيع من عمر البطولة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية