العالم: غياب المعايير وقواعد القانون الدولي

تعمل الولايات المتحدة على تطويق الصين بالخصوم؛ عبر شراكات وتحالفات، وبالذات مع الدول التي لها خلافات حدودية مع الصين، ومنها الخلاف الحدودي الهندي الصيني، أو تتنازع مع الصين في بحر الصين الجنوبي والشرقي، كاليابان ودول أخرى.
الصين تشكل مصدر قلق مستدام للولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من روسيا؛ سواء في الوقت الحاضر، أو على صعيد المستقبل، مما يرجح الصدام بين القوتين الاقتصاديتين العظميين، ولا أقصد هنا الصدام العسكري، بل الصدام بتوسعة المصالح في ساحات مصالح الخصمين حول العالم؛ بعملية ضدية تصادمية، لناحية السياسة الأمريكية نحو الصين، وليس السياسة الصينية نحو أمريكا، لأن الصين تدرك تماما أن التنافس التصادمي لا يخدمها حاليا.. لذا نلاحظ أن القادة الصينيين على أرفع مستوى، يدعون إلى إيجاد قواعد مشتركة مع جميع الدول التي تقع على مسارات الحزام والطريق، وعددها أكثر من 64 دولة، ويطرحون في خطابهم الاقتصادي والتجاري والمالي والاستثماري، الفائدة المتساوية للصين ولهذه الدول، وبينها دول عظمى وكبرى كروسيا ودول أخرى تقع في الفضاءات الأوراسية.
السياسة الصينية سببت الفزع لصانع القرار الأمريكي؛ خشية أن تؤثر في مصالح أمريكا في هذه الدول، اقتصاديا وتجاريا واستثماريا، وبالنتيجة سياسيا وعسكريا. وتعمل الولايات المتحدة على تحجيم الصين، لإدراكها أنها تمتلك قدرات هائلة في الاقتصاد والمال، وتكنولوجيا الاتصالات المتطورة، ومشاريعها في الحزام والطريق، إضافة إلى شراكات أخرى، أو منظمات أخرى، مع روسيا وغيرها.. الأمر الذي يشكل تهديدا جديا للوجود الأمريكي ومصالح أمريكا على جميع الصعد، في دول العالم الثالث، وحتى في دول متوسطة القوة والدول الكبرى، بما فيها دول الاتحاد الأوروبي، وعلى ما يظهر فإن الصين تدرك أن أمريكا تريد أن تورطها في نزاع أو حرب (مع وكلاء أمريكا) هي في غنى عنها، في هذه المرحلة على الأقل، لذا نرى الصين تجنح إلى تبريد الأجواء، والعمل الدؤوب على التهدئة بطريقة أو بأخرى؛ لأنها لا تريد أن تدخل في نزاعات وصراعات غير مناسبة وملائمة لها في الوقت الحاضر، وحتى إلى أمد منظور، وربما أكثر، حتى تتفرغ بلا قلق أو عقبات على طريق مشروعها الاستثماري في الحزام والطريق، وتعزيز قدراتها العسكرية الاستراتيجية. لكن الولايات المتحدة لا تناسبها هذه السياسة، بل تعتبر السياسة الصينية، سياسة عدائية لها، وتأكل من جرف شراكاتها في دول العالم، وبالذات في غرب آسيا وفي شرق آسيا وفي جنوب شرق آسيا، وشراكتها الاستراتيجية مع روسيا، لذا نلاحظ أن الولايات المتحدة تعمل على دفع اليابان إلى تقوية جيشها، وحتى صناعاتها العسكرية، وتشجعها على أن تصدر منتجاتها العسكرية إلى الخارج، ما يقود إلى إنعاش النزعة العسكرية اليابانية في مواجهة الصين في المنطقة، لأن أمريكا تعلم ما بين الصين واليابان من تاريخ معجون بالدم والاحتلال من جانب اليابان للصين، والمجازر التي ارتكبها اليابانيون في الصين، ولم تعتذر اليابان للصين حتى الآن عن سنوات احتلالها لها.. وهذا يعني ان العلاقة بين الدولتين، هي علاقة خشية وترقب، واستعداد، واستعداد مقابل. هذه السياسة الأمريكية دفعت الصين إلى تعزيز شراكتها مع روسيا.. صحيفة «غلوبال تايمز» الصينية، أشارت إلى توجه اليابان لتقوية جيشها، ومحاولتها إلغاء الدستور السلمي لليابان، الذي فرض عليها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أكثر من 77 عاما من الآن، لكن أمريكا الآن، تغض الطرف عن التوجه العسكري الياباني، بل إنها تدفعها في هذا الاتجاه. اعتقد أن اللعبة الأمريكية، التي تتمحور على تسخين العلاقات، ورفعها إلى درجة الغليان، بين الصين واليابان، لمشاغلة الأولى، ما يستدعي من الصين الاستعداد لها في المقبل من السنوات. في هذا الصدد؛ أعلن مؤخرا عن مناورات عسكرية مشتركة بين اليابان وأمريكا في جزيرة كيوشو. وتعمل الصين بجد ونشاط تتسابق فيه مع الزمن؛ الى استثمار الوقت في تقوية قدراتها العسكرية والاقتصادية وبناء شراكات غير قابلة للانفراط، تحت ضغوط الواقع نتيجة هذا النزاع، كما ونوعا، رسوخا وتجذرا، كما هو الحال في شراكتها مع روسيا، بالشكل الذي يجعلها قادرة على المواجهة بنجاح على أكثر من جبهة، بلا خوف من أن تتعرض إلى نقص في الطاقة.. فقد قامت الصين وروسيا في السنوات الأخيرة ببناء خطوط للسكك الحديد بين الدولتين عبر منغوليا، وخطين لنقل الغاز والنفط من روسيا إلى الصين، لكن من الجهة الثانية فإن الولايات المتحدة تعمل بجد وبنشاط على إثارة المشاكل للصين في البؤر الساخنة التي للصين مشاكل معها، أو في الدول التي استثمرت الصين فيها أموالا طائلة، في الحزام والطريق، لإفشال مشروع الصين هذا. صحيفة «بوميوري» اليابانية نشرت في الحادي والعشرين من أغسطس/آب الماضي، مقالا تحدثت فيه؛ عن نية أو خطط اليابان لنشر صواريخ كروز بعيدة المدى، يصل مداها إلى ألف كيلومتر في جزر نانسي الجنوبية، لتكون لها القدرة في توجيه ضربة مضادة للصين، أو سواحل الصين وكوريا الشمالية. الصحيفة بررت هذه التوجهات؛ بأنها تأتي ردا على مناورات الصين الأخيرة، التي أطلقت فيها صواريخ سقطت في المياه الاقتصادية اليابانية. صحيفة «ساوث تشاينا مورنينغ بوست» الصينية نشرت تقريرا، أشارت فيه إلى أن اليابان تعتزم نشر ألف صاروخ بعيد المدى 500- 5500 في جزر نانسي وكيوشو، بإمكانها أن تصل إلى الصين وكوريا الشمالية.

العالم يعيش أوضاعا مرتبكة، يسود فيها النزاع والصراعات والحروب، الغاية منها تثبيت مصالح الدول الكبرى على حساب مصالح الشعوب

إن تدافع الأحداث هذه، سوف تقود حتما إلى تعميق وترسيخ الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا في مواجهة الولايات المتحدة، التي تعمل بقوة وتوسع عمودي وأفقي لتطويق الدولتين وشل تحركاتهما. إلا أن هذه التحركات والخطط من الصعوبة أن تنجح فيها أمريكا؛ لأن المحيط الذي تعمل عليه لمحاصرة الدولتين، وأعني هنا الدول التي تقع ضمن هذا المحيط، أو الفضاءات التي تتحرك فيها أمريكا لفرض طوق من العزلة، أو تقييد تحرك خصميها الروسي والصيني؛ أغلب هذه الدول لا تفضل، أو لا تميل الى بناء او تأسيس شراكات أو تحالفات جدية مع الولايات المتحدة بالضد من الصين وروسيا، باستثناء استراليا واليابان. للتغلب على جنوح هذه الدول، أو ابتعادها عن أمريكا؛ تؤجج الولايات المتحدة خلافات الحدود، أو الصراع للسيطرة على الجزر في بحر الصين الجنوبي والشرقي.
في النهاية أقول؛ إن العالم يعيش أوضاعا مرتبكة، يسود فيها النزاع والصراعات والحروب سواء أكانت هذه الحروب داخلية أو حروبا بالإنابة أو حروبا مباشرة، الغاية منها تثبيت وتجذير هذه المصالح على حساب مصالح الشعوب وكيانات الدول لهذه الشعوب؛ بغياب يكاد يكون كاملا للقانون الدولي، وحتى لأبسط معايير وقواعد القانون الذي يحكم أو يشكل حاكمية لهذه المعايير والقواعد.. إن هذه الأوضاع ومن وجهة نظري؛ سوف تستمر لعدة سنوات مقبلة، وهي سنوات لن تكون قليلة؛ تحت ضغط النزاع والصراع بين القوى العظمى، أمريكا وروسيا والصين، والذي بدأ في التو، أي أن شكل العالم، أو معالم العالم الجديد بشكله النهائي، ربما لن يتضح إلا بعد سنوات طويلة مقبلة، إنما في المقابل شكل العالم الذي عرفناه لم يعد له وجود، انتهى وإلى الأبد، مهما حاول الأمريكيون تثبيته.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية