العامل الاسرائيلي من جديد

حجم الخط
0

أخطر ما تتعرض له مخرجات ربيع عربي بات منكسرا، لا يكمن في تفضيل حزب سياسي على آخر ووصول هذه القوة السياسية أو تلك من عدمه إلى سدة الحكم، أخطر ما يواجه موجة التفاؤل بالخلاص من الاستبداد وأنظمته الممتدة بالطول والعرض في العالم العربي يكمن في ما ذهبت إليه تقارير أمنية استراتيجية قادمة من الدولة العبرية، تتحدث صراحة عن ذلك الخطر وتحدده بضرورات القضاء على القوة الناعمة التي يمكن أن تحسم معركة الأحزاب والقوى السياسية في صراعها على كرسي الحكم في مصر في هذه الحالة، تلك القوة الناعمة التي تعني في ما تعنيه آلية العمل الديمقراطي ذاتها التي تنطوي بدورها على آلية طبيعية لتداول السلطة، حيث يشير أحد تلك التقارير، الذي أعده قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية (أمان)، وقُدم لأعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، إلى أن الحماس الإسرائيلي لإنجاح الخطوة الأخيرة التي أقدمت عليها المؤسسة العسكرية المصرية، لا يرجع للرضا الإسرائيلي عن التخلص من حكم الإخوان المسلمين، بل لأن الانقلاب يؤذن بالقضاء على ما وصفه التقرير بالقوة الناعمة التي كان يمكن أن يراكمها نجاح ما اعتبره التقرير، أول تجربة ديمقراطية في أكبر بلد العربي.
عندما يرغب الاسرائيلي بتنحية القوة الناعمة من بواكير تشكل آلية العمل الديمقراطي في بلدان عربية، فإنه يعرب في المقابل عن حاجته إلى بديل يمثله في هذه الحالة مجموع القوى غير الناعمة بالطبع، وعلى رأسها تلك القوى التي تعتقد بأنها تمسك بزمام الأمور، وكأن لسان حاله يقول إن بقاء الدولة العبرية آمنة مطمئنة على النحو الذي هي عليه منذ نحو 65 عاما، ما كان له أن يكون إلا بفضل سيطرة القوة غير الناعمة على انظمة الحكم في البلدان العربية عموما، وفي دول الجوار لفلسطين على وجه الخصوص.
ومثلما هو حال الجولات المكوكية والجهود المضنية التي يبذلها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، منذ توليه منصبه، لاحياء المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية بسقفها الواطئ الذي لن يتعدى في أحسن الأحوال محاولة ادخال بعض التحسينات الاقتصادية في حياة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، وفي الضفة الغربية وحدها، مع تنحية الجوانب السياسية للعملية السياسية العقيمة القائمة بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية والحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1993، عندما تم التوقيع سرا وعبثا على اتفاقاقات أوسلو، فإن حال الرؤية الاسرائيلية لمآلات الثورات العربية المعاصرة لا يختلف كثيرا، إن لم يكن متطابقا تماما، في ظل دعوة تلك التقارير إلى وضع خطة مارشال للشرق الأوسط، على غرار الخطة الأمريكية القديمة الشهيرة التي هدفت إلى إعادة بناء رأس المال في أوروبا لإيقاف المد الثوري التحرري، وابقاء القارة العجوز تدور في فلك السياسة الخارجية للادارات الأمريكية المتعاقبة.
تأبى الدولة العبرية ألا تتنكر لمصالحها وألا تغمض عينيها أمام الأخطار الحقيقية التي تحدق بها وتذكرنا دائما بمسلمات تعيشها الشعوب العربية منذ اغتصاب فلسطين، وتعيدنا بذلك دائما إلى المربع الأول باضلاعه الأربعة الملطخة بألوان العلم الاسرائيلي، وتدفعنا دفعا إلى استنتاج يغفله بعض العرب عمدا، وآخرون تجاهلا، مع أن ملامحه تتدلى كشجيرة العليق واضحة من جنبات مختلف أوجه حياة المواطن العربي أينما كان حتى في المهاجر القريبة والبعيدة على حد سواء. استنتاج ان حالفه الحظ وأخذ على محمل الجد، فإن من شأنه أن يعيد البوصلة إلى مسارها السليم، ومن شأنه ايضا أن يعيد مجموع القضايا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي أصبحت كوارث مستدامة، إلى الوقوف على أقدامها بعد أن بقيت عهودا واقفة بالمقلوب على رؤوسها، وما من شأنه كذلك أن يضع مستقبل هذه الشعوب على سكة طبيعية لا مكان فيها للانحرافات والاهتزازات غير المتوقعة والغريبة عن مجمل آليات حراكها الذاتي.
ذلك الاستنتاج يتلخص أولا وأخيرا بأن مجموع الكوارث والمآسي والنكبات والنكسات التي عصفت ولا تزال بالشعوب العربية ومصائرها مردها في المقام الأول إلى زرع حالة سرطانية مستعصية على العلاج اسمها الدولة العبرية، التي تشكل مصالحها أولوية الأولويات عند صناع القرار في العالم الغربي، الذين لا يستقيم ادعاؤهم الحضارة والتقدم لأنفسهم وانكارها على الآخرين، ما يعني تاليا، أن أي تحليل أو استنتاج على علاقة بمجريات الأحداث في البلدان العربية هو بالضرورة على علاقة ايضا بما يجري في الدولة العبرية وخطط وتوجهات صناع القرار فيها وفي الدوائر الحليفة لها، وما دون ذلك أو بعيدا عنه من محاولات فهم تعثر الثورات العربية على هذا النحو الفادح والكابح، سيبقى يعاني الشلل والتخبط بينما تستمر المشاكل والمعاناة على حالها.
ولا بد من التذكير هنا وللمرة الألف أن المسألة ليست عاطفية البتة، بل إنها مسألة تستند إلى الوقائع وتتصف بموضوعية جارحة في كل الحالات وليس بعضها، والسؤال الذي يطرح نفسه، أو لا بد من أن يطرح: ماذا كان يمكن أن يكون شكل أو اشكال الحكم في بلدان العالم العربي لو أنها لم تبتل بالسرطان الصهيوني؟ وماذا سيكون حالها عندما تنتهي مسوغات استفحاله في جسد المنطقة ومصائر شعوبها؟ وماذا لو أضيف إلى هذا البلاء حال من العمى السياسي الطوعي الذي يحول دون رؤية الحقيقة كما هي؟ ألا يجب أن نتساءل حول الأسباب التي دفعت جنرالات إسرائيل إلى الدوس على بنود مهمة من اتفاقات كامب ديفيد، المقدسة في عيونهم، والسماح لقوات من مشاة الجيش المصري بالدخول إلى مناطق في سيناء ما كانوا يحلمون في الدخول إليها يوما، حتى عندما كانت العلاقات المصرية الاسرائيلية في أحسن حالاتها، أو السماح للطيران الحربي المصري بالتحليق في أجواء قطاع غزة، أو السماح لقوات النظام السوري بالتوغل في مناطق من الجولان لطالما كانت محظورة عليها طوال عقود من الزمن.
حتى لبنان ليس مستثنى من الوباء الاسرائيلي الذي أصيب به غير مرة، والحبل على الجرار، فمن يمكنه تصديق أن القوى التي فرضت قرار 1559 في أروقة مجلس الأمن الدولي، القاضي بحل جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها وباحترام الحدود الاقليمية اللبنانية، ويدعو إلى عدم اختراقها وخروج أي قوة أجنبية من لبنان انطلاقا من قواعد القانون الدولي الذي يحظر تجاوز حدود أي بلد، هي نفسها التي لم تكلف خاطرها أن تدرج قضية دخول قوى أجنبية وعلى رأسها ميليشيات حزب الله اللبنانية على خط الحرب التي يشنها النظام السوري ضد الشعب السوري، في قرار ادراج ما قيل انه الجناح العسكري لهذا الحزب في قائمة الارهاب الخاصة بالاتحاد الأوروبي؟ على أي أساس اتخذ الاتحاد قراره إذا؟ ام أنها سياسة الكيل بمكيالين أو أكثر تطل من جديد على المنطقة؟
المقدمات الخاطئة تؤدي بالضرورة إلى نتائج خاطئة كما يقال، وإغفال العامل الاسرائيلي في معادلات التغيير العربية ما هو بالفعل إلا دفن للرأس في الرمال، بينما سائر الجسد معرض لكل العوامل المحيطة المشكلة لمجموع القضايا العربية المستعصية، وفي مقدمتها التصدي لاستحقاق التغيير نفسه، الذي لا يمكن أن يرى النور بمعزل عن التعامل مع ذلك العامل الدخيل وثقيل الظل، الذي يعد، شئنا أم أبينا، العامل الحاسم في كل الأحوال وعلى كافة المستويات. الغريب أننا نسمع صباح مساء، مقولة شهيرة تفيد بأنه ما من ملف يتعلق بالمنطقة يمكن أن يمضي قدما من دون ضوء أخضر أمريكي- اسرائيلي، لكن عندما نفتح تلك الملفات ونحركها نعمد إلى تنحية هذا المعطى الحاسم بطريقة من شأنها أن تزيد من منسوب تفاقم المشاكل التي يعاني منها العالم العربي أو ابقائها على حالها في أحسن الأحوال.

‘ كاتب فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية